ا
<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 17:52:44 Aug 09, 2016, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
الأمم المتحدةمرحباً بكم في الأمم المتحدة. إنها عالمكم

سلسلة ورقات المناقشة

الورقة الثالثة

 

هتلر وبول بوت وسلطة الهوتو: التمييز بين مواضيع أيديولوجية الإبادة الجماعية

بقلم الأستاذ بن كيرنان
أستاذ التاريخ في قسم أ. هويتني غريسوولد
أستاذ الدراسات الدولية ودراسات التخصص
مدير برنامج الدراسات بشأن الإبادة الجماعية، جامعة ييل (الولايات المتحدة)

 

كانت محرقة اليهود التي ارتكبها النازيون هي أشد الحالات تطرفاً في التاريخ فيما يخص الإبادة الجماعية. فالمحاولة التي كانت ترعاها الدولة للقضاء بأساليب منظمة على ملايين الأشخاص العُزَّل من السلاح خلال فترة تقل عن خمس سنوات، قلّما يوجد لها مثيل. فعملية إفناء أعداد بالجملة تتراوح من خمسة إلى ستة ملايين يهودي، والغزوات المزلزِلة لمعظم أوروبا واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية التي مكّنت من ذلك تطلبت اقتصاداً متقدماً ودولة حديثة مدجّجة بالسلاح. ومع ذلك كانت آلة القتل النازية لديها مصدر قوة أكثر عراقة. فقد كانت تديرها آلات أيديولوجية متلاحمة حيث كانت تمجّد العنصر والتاريخ والأرض والزراعة - وكل الأفكار التي تبرز في نطاق من السياقات التكنولوجية.


وتعتَبر الشواغل القوية لدى مرتكبي الجرائم أيضاً من الصفات المميزة لأفعال أخرى من الإبادة الجماعية. ويمكن تحديد السمات الشائعة للتفكير الخاص بالإبادة الجماعية حتى في الحالات التي تفتقر إلى القوة التدميرية الخاصة بمحرقة اليهود. وفي الواقع، يمكن ملاحظة الشواغل الأيديولوجية لمرتكبي الجرائم في كثير من الحالات منذ المراحل المبكرة للاشتغال بمهنهم، قبل أن يصلوا إلى السلطة أو قبل تجميع القوات العسكرية أو الجهاز التنظيمي اللازم لتنفيذ الإبادة الجماعية. وقد يساعد وصف هذه السمات الشائعة لكثير من الحالات في التنبؤ بأفعال الإبادة الجماعية ومنعها مستقبلاً.


وسأضع الأيديولوجية النازية جنباً إلى جنب، مع فاعلين آخرين ارتكبا الإبادة الجماعية وهما حكام الخمير الحمر في كمبوديا من سنة 1975 إلى سنة 1979، ونظام سلطة الهوتو في رواندا سنة 1994. ولدى زعماء النظم الثلاثة رؤى خاصة بالمستقبل مستوحاة إلى حدٍ ما من الماضي القديم - الأسطوري والأصلي - وفيها تخيّل هؤلاء أفراد عنصرهم الأصلي النقي الزراعي الذي كان ذات مرة يزرع أقاليم أكبر ولم يكن بها يهود ولا فييتناميون ولا أشخاص من شعب التوتسي. وكان مرتكبو الإبادة الجماعية ضد جماعات الضحايا يتبادلون الشواغل بالنقاء العرقي ليس هذا فحسب بل أيضاً بالعراقة والزراعة والنزعة التوسعية. وعادة ما يكون التفكير الخاص بالإبادة الجماعية متسماً بالنزعة العنصرية والرجعية والريفية والتطرّف في القومية.


لقد امتدح هتلر ارمنيوس ("هيرمان")، الذي أفنى جحافل الرومان القدماء، بصفته "أول مهندس لحريتنا"، وملك القرون الوسطى العدواني، شارلمان باعتباره "أحد أعظم الرجال في تاريخ العالم". وفي سنة 1924، حثّ هتلر على أنه يجب على الرايخ الجديد أن يهيئ نفسه ويستعد للسير على طريق الفرسان الألمان الشماليين التوتونيين القدماء للحصول بحد السيف الألماني على قطعة أرض وما عليها من عشب من أجل المحراث الألماني.


وثمة مثال آخر وهو النموذج الروماني ذاته، الذي اعتبره هتلر "أفضل وأعز، ليس فيما يتعلق بوقتنا الحاضر بل أيضاً من المحتمل أن يكون لجميع الأزمان". واعتَبر أن ما قامت به روما من إبادة جماعية في قرطاج في سنة 146 قبل الميلاد "كان إعداماً بطيئاً لشعب من خلال صحاريه". فقد كانت اسبرطه القديمة ثالث نموذج نازي. وأوصى هتلر في سنة 1928 بأن أية دولة ينبغي "أن تحدِّد العدد المسموح له بالعيش"، وأضاف قائلاً إن "أهل اسبرطه كانوا قادرين" ذات مرة على مثل هذا التدبير الحكيم ... وما قام به 000 6 اسبرطي من إخضاع 000 350 من عبيد الأرض ما كان ممكناً، إلا بسبب التفوق العنصري للاسبرطيين". فقد أنشأ هؤلاء "أول دولة عنصرية". كما أن هتلر عندما غزا اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في سنة 1941 رأى في مواطنيه عبيداً للأرض أي أنهم عبيد الأرض لرجاله الاسبرطيين فقد جاء هؤلاء "فاتحين واستولوا على كل شيء". وذكر أحد الضباط النازيين هذا بقوله "كان على الألمان أن يتولوا مكانة الاسبرطيين العسكريين، في حين كان الروس هم عبيد الأرض".


وقد أبدى هتلر ملاحظة قال فيها "لقد عرفت لتوّي أن تغذية الجيوش الرومانية كانت تقوم كلية تقريباً على الغلال". وأضاف قائلاً إن "أوكرانيا وروسيا ستكونان ذات يوم مخزنين للغلال من أجل أوروبا"، بيد أنهما كانتا لا تستحقان هذه الجدارة إلاّ بالاستيطان الزراعي الألماني. وزعم هتلر أن "السلافيين مجموعة من أشخاص وُلدوا عبيداً". ولكن في ظل سيطرة الفلاح الألماني "كل بوصة من الأرض تُستغَل بكل حماس". ومن ثم "نستطيع طوال فصل الشتاء أن نجعل مدننا تنعم بالخضروات والفواكه الطازجة. فليس هناك شيء أحب للنفس من فلاحة البساتين". وكان الألمان أكثر تقدماً بسبب "كان أسلافنا جميعهم ممن يفلحون الأرض". ولكن البلد عانى من التصنيع المفرط "الضار" حيث سبب هذا "إضعاف الفلاح". واعتبر هتلر طبقة من الفلاحين الأصحاء هم الأساس للأمة كلها ... قوام متين من الفلاحين الصغار والمتوسطين. كان في جميع الأزمان أفضل حماية من المساوئ الاجتماعية". وزعم هتلر في سنة 1933 أن "مستقبل ألمانيا يعتمد حصرياً على الحفاظ على الفلاح".


وكان النازيون يرون في اليهود نموذجاً أصلياً لسكان المدن. فالتفكير المناهض للحضر عزّز المعاداة القاسية للسامية. وفي ذروة المحرقة، ظل المتمذهبون النازيون منشغلين بالتنظير العنصري والإبادة الجماعية والحرب التوسعية ليس هذا فحسب، بل ظل هؤلاء أيضاً منشغلين بما هو عريق مع تفضيل أسلوب الحياة الزراعية.


وقد كشف دليل نظام بول بوت لمعابد كمبوديا القديمة عن انشغالها الرسمي بالعصور التليدة. فقد بدأ كما يلي: بنيت معابد انغكور وات في الفترة ما بين 1113 و 1152". وكان أعداء مثل أقلية "تشام" المحلية، ضحايا الإبادة الجماعية في ظل حكم بول بوت، أعداءً أزليين. ويذكر كتاب الدليل الإرشادي أن معبد انغكور توم بُني "بعد غزوات قوات تشام في سنة 1177، والتي قامت بتدمير العاصمة تدميراً كاملاً. وأضاف منشور آخر "آثار انغكور الرائعة تعتبرها البشرية قاطبة أنها إحدى الروائع الفنية للحضارة اللامعة والروح الخلاّقة لشعب كمبوتشيا العامل". وكما قال بول بوت بالحرف "إذا كان شعبنا يستطيع أن يبني معبد انغكور، فإننا نستطيع أن نفعل أي شيء". وكان انتصاره في سنة 1975 "ذا دلالة أكبر من فترة انغكور". وقد أعطت السياسية الستالينية والماوية الحزب الشيوعي لكمبوتشيا الوسيلة السياسية لتحدّي هذا النموذج الذي يعود للقرون الوسطى ولاستعادة التقاليد الريفية لعهد متوهّم عندما زعم بول بوت "أن مجتمعنا اعتاد أن يكون صالحاً وطاهراً".
وقامت الماوية (مبادئ ماو تسي تونغ) بتعزيز اهتمام الخمير الحمر البالغ بالحياة الريفية. وفي الستينات، أدان نظام الأمير سيهانوك متمردي الخمير الحمر بسبب "تحريض الشعب على مقاطعة المدارس والمستشفيات وترك المدن". وقال المتمردون عن سيهانوك "دعه يعزق التربة مرة واحدة مثلما نفعل". ويقول رئيس الدولة السابق من الحزب الشيوعي لكمبوتشيا، خيو سامفان، في مذكراته وهو يتذكر لقاءه مع قائد المغاوير "موك" في الأدغال. ويشير ما قاله إلى أن سامفان كان مفتوناً بالمغامرات الخيالية الريفية. فقد وجد موك وهو يرتدي ملابس "مثل جميع الفلاحين، سروالاً قصيراً أسود وإزاراً قصير الأكمام وبغير أزرار. وكشف لنا الوهج المنتشر من المصباح مع ذلك عن عينين غائرتين ثاقبتين أعلى وجهه ذي اللحية الكثة". وكان موك "يتحرك بحرية، ... أحياناً عاري الصدر، يكشف عن صدر وذراعين بهما شعر ... . وفي الحقيقة أصبحت أمام نشاطه، دارياً بحدودي. وأعمق من ذلك، شعرت بالزهو أن أقابل هذا الرجل الذي اعتبرته فلاحاً يصبح واحداً من أهم القادة في حركة مقاومة وطنية".


ومثلما توسّع الحزب الشيوعي لكمبوتشيا في ربوع الريف، قسّم الحزب مجتمع الخمير إلى "طبقات". فمن الناحية النظرية، كانت الطبقة العاملة هي "القائدة"، بيد أنه من الناحية العملية شكّلت "الطبقات الأدنى الثلاث من الفلاحين القاعدة لثورة الحزب الريفية. وقام الحزب الشيوعي لكمبوتشيا المنتصر بإخلاء مدن كمبوديا بالقوة في سنة 1975، واعتَرف قائلاً: من الناحية الواقعية المحسوسة، لم نرتكن إلى قوى العمال ... أنهم لم يصبحوا الطليعة. وفي الواقع الملموس، كان هؤلاء فلاحين فحسب". وظلّت الرؤية الأساسية للحزب الشيوعي لكمبوتشيا تتسم بأنها ريفية. وزعم سامفان: "أن الماء يجري طليقاً، وبالماء تصير المناظر منعشة والنباتات نضرة وعلى وجوه الناس ابتسامة ... فالفقراء والفلاحون من الطبقة الوسطى الدنيا قانعون. وكذلك هم الفلاحون من الطبقة الوسطى". وأضاف بول بوت: "الناس من الطبقات الفقيرة السابقة والفلاحون من الطبقة المتوسطة الدنيا تغمرهم نشوة القناعة ... لأنهم الآن يستطيعون أن يجدوا قوت يومهم طوال السنة وأن يصبحوا فلاحين من الطبقة الوسطى". وكان هذا فيما يبدو وجهة نظر الحزب عن المستقبل. ولقد تجاوز هذا حتى المبادئ الماوية عندما أعلن أن الريف ذاته، وليس البروليتاريا في المناطق الحضرية، يضم طليعة الثورة: "لقد قمنا بإخلاء المدن من الناس، وهذا هو صراعنا الطبقي". وفي عملية سحق "الأعداء" لجأت القيادات بالحزب الشيوعي الكمبوتشي إلى استخدام الاستعارات اللفظية الزراعية مثل "اقتلاع الحشائش، واقتلاع الأشياء من جذورها" والإعلان بأن جثث الضحايا ستستخدَم بمثابة "سماد مخصِّب".


وقد لازم السياسة التوسعية الإقليمية تمجيد لما هو زراعي. وشنّ النظام هجمات ضد جميع جيران كمبوديا: فييت نام ولاوس وتايلند. وليس من المعروف كم كان ثمن ذلك من أرواح الكمبوديين، بيد أنه وفقاً لما ذكرته هانوي، قَتَل الخمير الحمر قرابة 000 30 من الفييتناميين المدنيين والجنود في قرابة سنتين من الغارات عبر الحدود. وكان بول بوت يهدف إلى "إثارة الكراهية الوطنية والكراهية الطبقية ضد العدو الفييتنامي العدواني". فالغارات داخل فييت نام من شأنها أن "تقتل العدو كما يحلو له وسوف يصرخ الفييتناميون الذين يستحقون الاحتقار من الفزع مثلما تصرخ القردة من الفزع هاربة في أنحاء الغابة". وأعلنت كمبوديا التوسع في جبهة بحرية، وتغيرات إقليمية متوقعة في "المنطقة السفلى من كمبوديا (كمبوتشيا كروم)، وهي أرض فُقدَت لصالح فييت نام منذ أوائل القرن التاسع عشر. فقد أعلن كثير من مسؤولي الحزب الشيوعي الكمبوتشي أن هدفهم " استعادة كمبوتشيا كروم" (المنطقة السفلي من كمبوديا). وأصدر بول بوت أوامره للقوات "بالتوغل وشنّ حرب فدائية للإطباق على رقبة العدو". وزعم تقرير صادر من الحزب الشيوعي الكمبوتشي أن معظم شعب كمبوتشيا كروم التمس "الانخراط في الجيش الكمبوتشي بغية قتل جميع الفييتناميين". وفي كمبوديا، اتهم الحزب معظم ضحايا الخمير بأنهم "يحملون أجساد الخمير مع عقول فييتنامية". ودشّن النظام أضخم مذبحة ضد الكمبوديين مع دعوة "لتطهير ... حشود الشعب". وفي الفترة من 1975 إلى 1979، تسببت سيطرة الحزب الشيوعي الكمبوتشي في مقتل حوالي 1.7 مليون شخص نتيجة للإنهاك في العمل أو المرض أو التجويع وأفعال قتل "الأعداء" السياسيين والمنتمين لأصول عرقية، بما في ذلك الفييتناميون وأقليات تشام. وكان لأفكار الاستحواز المتسلطة على العقل بالعنصر والتاريخ والزراعة والأراضي كلها أدّت أدواراً في الإبادة الجماعية الكمبودية.


وكتب أحد البارزين ممن ارتكبوا الإبادة الجماعية في رواندا في سنة 1994 قائلاً "في أزمان قديمة، كانت رواندا مملكة مسالمة في ظل الهوتو، "قبل وصول التوتسي". فقد زعم أن شعب الهوتو الذي ينتمي لأسرة البانتو العظيمة وتوا أو أقزام الجماعة العرقية الأصغر كانوا يعيشون في وئام منذ عصور قديمة تعود إلى القرن التاسع". وبعد ذلك جاء في القرن السادس عشر جنس عرقي من المتطفلين الشماليين، "قبائل التوتسي من بلاد الحبشة".


وفي سنة 2003 أدانت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا المؤرخ الكبير المتعصب لقبائل الهوتو، فرديناند ناهيمانا بارتكاب جريمة إبادة جماعية. وكان ناهيمانا قد بدأ أبحاثه في سنة 1978 في شمال غرب رواندا، موطن رئيس الجمهورية آنذاك، جوفينال هابياريمانا وزوجته اغاثه كانزيغا، أميرة من بلاط مملكة بوشيرو السابقة المحلية للهوتو. وكتب ناهيمانا أنه قبل وقت طويل من "التوسع وتنصيب حكم التوتسي" في جميع أنحاء رواندا، نظَّم شعب الهوتو الشماليون أنفسهم في "دول" وكل دولة منها لها تاريخ طويل. ومن الروايات التي تحكى شفاهة من "أحفاد مباشريين لآخر أمراء الهوتو"، ذكر ناهيمانا في القائمة تسع ممالك وحكامها. وراح يصور ممالك الهوتو عائداً إلى الوراء في التاريخ، مضيفاً جيلاً مدته 33 سنة لكل مملكة، ووضع تقديراً حسابياً يفيد أن هؤلاء جميعاً "ظهروا أثناء القرن السادس عشر (ست ملكيات) وفي القرن السابع عشر (3 ملكيات)". ومن المفترض أن أول ملك للبوشيرو حكم من سنة 1600 إلى سنة 1633، والمؤسس بوهوما "حكم في الفترة من سنة 1499 إلى سنة 1532". وسقط حكم بوهوما فقط بعد 429 سنة (1499 - 1928) لتخضع "لاحتلال التوتسي". وإلى حد ما كانت الإبادة الجماعية للتوتسي محاولة لعكس مسار تلك النتيجة التاريخية.


وتضمنت أيدلوجية الإبادة الجماعية التي اتُبعت في ظل سلطة الهوتو، مثل النازيين والخمير الحمر، تصورات من التاريخ والعنصر العرقي مع أفكار خاصة بالزراعة والأراضي.


وخلص ناهيمانا إلى نتيجة، على سبيل المثال، أن المصطلح umuhinza ينطبق على حكام الهوتو في الشمال الغربي والذين خضعوا لمملكة التوتسي، مع الاشتقاق من لفظ كان يدل على "الازدهار الزراعي" و"الأمن الإقليمي". وقد احتفظ أولئك الأمراء من قبائل الهوتو في الشمال الغربي بالهيبة الخاصة بالطقوس المحلية من خلال هذا اللقب الذي كان يعني جزئياً: "الفلاح بامتياز الذي يحكم شعباً من المزارعين" أو "رئيس جمهورية المحاصيل". واعتبرت النُظم التي يسيطر عليها الهوتو أن أقلية التوتسي في رواندا طغاة تاريخيون، ليس هذا فحسب بل لكنهم أيضاً من القاطنين في المناطق الحضرية أو الرعاة الذين يقومون بتربية الماشية، وهم من غير المزارعين الفلاحين العتاة مثل الهوتو. وأصبحت الحياة الريفية والعمل الريفي من الأشياء المبجَّلة في سلطة الهوتو. وأفاض ناهيمانا في التعبير عن إعجابه بشأن المفكرين الذين "أمسكوا بمعزقة الأرض أو آلة التقليم والتشذيب أو أية أداة يدوية أخرى وانضموا إلى صفوف حشود الفلاحين ليقلبوا التربة بأيديهم وليعيشوا الواقع الفعلي للعمال اليدويين ... واستعاد هؤلاء معاً القيمة لمعزقة الأرض". وقرر ناهيمانا، بصفة مدير مكتب المعلومات في رواندا منذ سنة 1990، السماح "في نهاية الأمر لظهور الحقيقة الريفية .


وعمدت محطة إذاعة وتليفزيون سلطة الهوتو Radio Télévision Libre des Milles Collines إلى الجمع بين المواضيع الزراعية والعنصرية العنيفة. وأعلنت في سنة 1993: "قبائل التوتسي هم بدو وغزاة قدموا إلى روانداً بحثاً عن الرعي". وأعلن رئيس تحرير محطة الإذاعة قبل ثلاثة أسابيع من بدء الإبادة الجماعية في نيسان/أبريل 1994: "نحن لدينا هنا إذاعة، ولو أراد أي شخص حتى فلاح أن يقول شيئاً باستطاعته المجيء إلى هنا، وسوف نعطيه الكلمة. وعندئذ سوف يكون بمقدور فلاحين آخرين الاستماع لما يفكر فيه الفلاحون". وفي ذروة المذبحة في منتصف أيار/مايو حثت محطة الإذاعة على مواصلة الجهود "لإبادة التوتسي من على وجه الكرة الأرضية" "وجعلهم يختفون مرة واحدة وإلى الأبد". وكان أحد المستمعين للإذاعة وصار قاتلاً، قد أخبر الباحث تشارلز ميرونكو أنه استمع إلى إذاعات تتضمن عبارات مثل: "عندما يقوم واحد من الهوتو بالفلاحة، توجد لديه بندقية وعندما يظهر العدو، تتبادل معه إطلاق النار. وعندما يتقهقر، عندئذ تمسك بالمعزقة وتمارس الفلاحة!". وكانت مطاردة التوتسي يعبَّر عنها بشعارات مثل "طهر الشجيرات" أو "إفصل الحشائش عن الذرة العويجة" و"إقلع اللبلاب السام من جذوره". وكان المذيع الرسمي في إذاعة رواندا يحث أيضاً الناس على مطاردة التوتسي حتى إلقاء القبض عليهم، على سبيل المثال، ما حدث في 12 نيسان/أبريل: "عليك بالقيام بأعمال مجتمعية محلية لتنظيف هشيم الأشجار، ولتفتيش البيوت، ابتداءً بتلك البيوت المهجورة، ولتفتيش المستنقعات في المنطقة للتأكد من عدم وجود صراصير [أي توتسي] إنزلقت إليها". وصوَّر والي كيغالي فيما بعد أفعال القتل في سنة 1994 بأنها نتيجة لاستفزاز من هجمات التوتسي العرقية على بستان زراعي يملكه الهوتو. وألقى باللائمة عن المذابح المفترض أنها فيما "بين العناصر العرقية المختلفة" على المعارضة "جيش التوتسي الأحادي العرق"، الذي أفسد "السنوات الجميلة للجمهورية الثانية عندما كان يفيض اللبن والعسل بوفرة".


وكانت وجهة النظر في عالم سلطة الهوتو تتسم أيضاً بالطابع الإقليمي مع سياسة توسعية داخلية وأيضاً موجَّهة إلى وراء حدود رواندا. وقد كتب جيرارد برونييه أن انقلاب هابياريمانا في سنة 1973 جاء إلى السلطة بأميرة من قبيلة بوشيرو، ليس هذا فحسب، بل أنه كان إرهاصاً أيضاً بموجة من "انتقام الشماليين" من خلال فصيل "شرس من الهوتو" ضد طوائف الهوتو الجنوبيين الأكثر سماحة وتحرراً في الفكر. وبعد وفاة هابياريمانا في 6 نيسان/أبريل 1994، توجه الشماليون المتعصبون لوطنيتهم على الفور إلى ممارسة الإبادة الجماعية لقبائل التوتسي. ويصف برونييه هؤلاء بأنهم "الشماليون الغربيون الحقيقيون"، ممثلو رواندا الصغيرة" التي هزمت رواندا الكبيرة". وتوحي حملتهم بأنهم كانوا يهدفون إلى توسيع نطاق نقاء الهوتو العرقي الخاص بقبيلة بوشيرو في رواندا لتحويل هوية إقليمية إلى شكل عنصري الطابع من التطرف في القومية المحلية.


وكانت الطموحات العرقية - الإقليمية لسلطة الهوتو أيضاً تتجه إلى الخارج. وأوضح ناهيمانا أن مملكة رواندا في ظل التوتسي قبل الفترة الاستعمارية قامت أيضاً "بتوسيع نفوذها" شرقي الكونغو وجنوبي أوغندا، بيد أن "هذا النفوذ لم يكن أبداً يعني خضوعاً سياسياً وإدارياً" من جانب نُظم الحكم المحلية. ومثل ممالك الهوتو في شمال غرب رواندا "لم تتوقف هذه الأقاليم التي تتجاوز رواندا الحديثة مطلقاً عن خضوعها للسيطرة من سلطاتها الخاصة بها". ولهذا وجدت إمكانية تاريخية من أجل إبرام تحالف مناهض للتوتسي يتجاوز حدود رواندا. وشكا ناهيمانا أن النُظم الاستعمارية الأوروبية قد "اغتالت رواند وشوهتها وبترت أطرفها" بتحويل المناطق الناطقة باللغتين الكينية الرواندية إلى مستعمراتها في الكونغو وأوغندا. وبحلول زمن سقوط سلطة الهوتو في تموز/يوليه 1994، كانت مطالب الهوتو التقليدية في الشمال الغربي تمتد إلى ما وراء باقي رواندا، والآن انتشرت خارج حدودها أيضاً. ونقلت سلطة الهوتو ممارساتها العنيفة بشأن الإبادة الجماعية إلى البلدان المجاورة وهاجمت أقلياتها التابعة لقبائل التوتسي. ومثلما ذكر ريك أورث أنهم "واصلوا قتل التوتسي في رواندا، ليس هذا فحسب بل استهدفوا أيضاً توتسي بانيارواندا الذين يعيشون في شرق الكونغو". وهناك طافت ميليشيات الهوتو عبر أقاليم كيفو، وذبحت رعاة الماشية من التوتسي المحليين، وتسللوا إلى هضبة ماسيسي في محاولة "لإبادة توتسي بانياماسيسي". ويشرح برونييه أنهم استطاعوا بهذه الطريقة خلق "نوع من أرض الهوتو" التي يمكن أن تكون إما قاعدة لإعادة الاستيلاء على رواندا، أو إذا ما فشل ذلك، تكون رواندا جديدة خارج رواندا القديمة".

وبإجراء مقارنة موجزة لثلاثة أفعال من الإبادة الجماعية في القرن العشرين تظهر أن تاريخ محرقة اليهود التي ارتكبها النازيون تشتمل على علامات تحذير تلقي الضوء على حالات تالية ومحتملة في المستقبل. ومع العنصرية العنيفة أو التعصّب الديني، والوساوس المتسلطة مع الاهتمام بما هو تليد، وقد تصبح الزراعة والسياسة التوسعية، في كثير من الأحيان علامات على الطريق إلى الإبادة الجماعية.



أسئلة للمناقشة

 

العودة إلى قائمة المحتويات >>