<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 08:17:49 Dec 17, 2017, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide

بناء السلام في عقول الرجال والنساء

أفكار

الفلسفة لمواجهة القبليّة

cou_03_17_tribalisme_01.jpg

“محن”، عرض مُؤقّت للرسام سير المختص في الرسم على الجدران، وللرسامة “ممزقة المعلقات” إيفيزا-نام، في محمية مالاكوف (فرنسا). يُسائل العرض مفاهيم الهجرة والحدود.
كشفت «أزمة الهجرة» عن نزعة الإنطواء القبلي الذي يُعتبر مصدر ما يُسمّيه الفيلسوف سليمان بشير دياني «أزمة فكرة الإنسانية». وهو تمشٍّ فلسفي، يتناول أحداث الساعة، وينتحي منهج تفكير برجسون.

سليمان بشير دياني

نعيش اليوم أزمة حول فكرة الإنسانية التي يمكن للفلسفة، بل ويجب عليها أن تُساعدنا على توضيحها. ما معنى أزمة فكرة الإنسانية؟ في صحيفة لوموند الفرنسية المُؤرّخة في 20 أبريل 2016، تساءل نيكولا هولو، لما كان رئيسا للمؤسسة من أجل الطبيعة والإنسان، وقبل أن يحتلّ منصب وزير: «أمام المهاجرين، أين ذهبت إنسانيتنا؟»
أعتبر أن الطريقة التي تم بها طرح هذا التساؤل أساسية، لأنها تُبرز أن ما تمثله «أزمة الهجرة» التي نعيشها والتي يُقال إنه لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، إنما يكشف عن نزعات الإنطواء على الهوية وهي نزعات تعيد النظر في البعد التعديلي والأخلاقي للإنسانية.
يجب أن نُفكّر معا في صورة المهاجر التي توحي بالمحنة البشرية وتصاعد ما يُسمّى بالعرقية- القومية والتي أُسمّيها «القبلية»، باعتبار أن كلمة «الشعبوية» التي تم اعتمادها، لا تفي بالمعنى.
إن أفضل رمز لتمثيل نقطة الإلتقاء بين المهاجر والعرقية-القومية هو تلك السفينة التي أجّرها شبان أوروبيون من أقصى اليمين، أطلقوا على أنفسهم إسم "الجيل المتمسّك بالهوية"، لاستخدامها في البحر الأبيض المتوسط كحاجز أمام قوارب المهاجرين. ولنا أن نتساءل إن هم ينوون إغراق هذه القوارب. صورة أخرى تجول بالخاطر، وهي صورة الصيادين التونسيين الذين يُعارضون تزويد السفينة بالوقود في موانئ هذه البلاد، معتبرين أنها "سفينة العنصرية".
من المعلوم أن الحركات العرقية-القومية نجحت هنا وهناك، في أن تُوصل إلى السلطة أحزابا وشخصيات جعلوا من الهجرة فزّاعة مُخيفة وطلبوا من ناخبيهم أن يُساندوهم في التصدّي لها، بتكوين جبهة قومية. وكادوا أن ينجحوا في أن تحتل ايديولوجيتهم المرتبة الأولى في هولاندا، ذلك البلد الذي سجله التاريخ، وتاريخ الفلسفة بالخصوص، بكونه أرض التسامح وفكرة الإنسانية بامتياز.

الطابع البدائي للغريزة القبلية

إن التساؤل حول الأسباب التي تستمدّ منها النزعة القبلية قوّتها يتطلّب تحليلا لا بد من الاستنارة فيه من الفلسفة، وبالخصوص، من فلسفة هنري برجسون الثمينة. فهي تُبين أن الرفض الجذري للتجاوب مع سؤال نيكولا هولو إنما يعود إلى عدم الإعتراف أصلا بفكرة "الإنسانية عموما" التي يمكن أن ينبني عليها واجب الضيافة.
هلّا توجد الإنسانية عموما؟ بلا، فهي موجودة في ما يُسمّيه برجسون «الروح التي تتفتّح»، أو «الروح المنفتحة» وهي في صلب الفكر الذي بسطه في كتابه مصدرا الأخلاق والدين (باريس 1932).
في هذا الكتاب، يُفسّر الفيلسوف الفرنسي أن الإحساس بالإنتماء القبلي هو غريزة. وحيث أنه غريزة، فلا طائل من البحث عن أصله أو عن طبيعته، وإنما الإقتصار على الإعتراف بوجوده وبأنه مغروس في طبيعتنا بشكل بدائي.
هذا إذن هو الحافز الذي ترتكز عليه سياسة القبيلة للدعوة إلى التجمع العرقي-القومي. وبالتالي، عندما تتظاهر هذه السياسة بالحكمة وتقدّم نفسها كردّ بديهي فوري ضد السياسة الداعية للإنفتاح على الغير، التي ترفضها باعتبارها سياسة مراعاة معقدة، نفهم أن سياسة القبيلة اعتمدت الطابع البدائي للغريزة القبلية كحقيقة أوليّة. حسب نظرتها، ما هو موجود بالنسبة إليّ هو المجتمع الذي تحويه دائرة القرب، من رجال ونساء يُشبهونني، لهم نفس لون البشرة ونفس الدين، وما إلى ذلك، إلى حد أن شاهدنا البعض يقترح فرز اللاجئين حسب ديانتهم!
وإذا أردنا استحضار مفهوم مجرّد مثلما هو الشأن بالنسبة لمفهوم الإنسانية، فإن ذلك لن يكون سوى تجميعا حيوانيا، أو مجموعة نحصل عليها فقط بعملية جمع لإنسانيات متنوّعة في النهاية. ولا يمكن الوصول إلى فكرة الإنسانية بمجرّد الحديث عن الانتماءات وبتوسيع السجلات الإقليمية تدريجيا. خلاصة القول هو أنه لا يمكن أن نُمطّط غريزة القبيلة أملا في أن تُصبح غريزة الإنسان.


طالب لجوء وهو يُطعم الحمائم في بهو مركز إيواء طالبي اللجوء بيان دال لاغو في كالتانيساتا (إيطاليا)، 2014.

الانفتاح، تجاوز للغريزة

يجب إذن أن نتمكّن من تجاوز الغريزة حتى نجد أنفسنا من جديد، مباشرة، في اتجاه الإنسانية، في ذاتنا ولدى الآخرين. ويُصبح إذن السؤال كالآتي: كيف يمكن أن نفتح الروح على ما يتجاوز القبيلة، إذا تأكد أننا نحبّ في الأصل «آباءنا ومواطنينا بشكل طبيعي ومباشر، في حين أن حب الإنسانية لا يُمكن أن يكون إلا غير مباشر ومُكتسب»، كما قال برجسون؟ من أين يستمدّ شعور مغاير للغريزة الفورية، قوتَه؟ بعبارة أخرى، كيف يُمكن اكتساب ما هو مخالف لما رسمته الطبيعة لنكون جزءا من المجموعة التي بنتها "قبيلتنا"، بأخلاقياتها الخصوصية ومناهضتها للقبائل الأخرى؟ والجواب أنه من طبيعتنا، كما فسّر ذلك برجسون، القدرة على «خداع» تلك الطبيعة ذاتها، وعلى توسيع «التضامن الاجتماعي ليصبح أخوّة إنسانية»، بفضل الذكاء.
نحن نكتسب إذن مفهوم هذه الأخوّة الإنسانية عبر الدين، من جهة، (ويجب التذكير هنا بأن في الكلمة الأصلية في اللغة اللاتينية إشارة إلى ما يُفيد الترابط)، ومن جهة أخرى عبر الذكاء الذي يتّصف به العقل الفلسفي. لتجاوز الغريزة هناك إذن دعوة الدين إلى حب الإنسانية «عبر الإله، وفي الإله»، والعقل الذي «نتّحد جميعا» من خلاله، والذي «يستخدمه الفلاسفة لإطلاعنا على الإنسانية لنتبيّن مدى سموّ كرامة الإنسان، وحق الجميع في الاحترام». حب الإنسانية هذا ليس بدائيا كما هو شأن الغريزة، لكنه يبقى أيضا أوّليا. وإذا جربنا ذلك عبر الإحسان أو بالمفهوم الفلسفي، وجدنا في كلتا الحالتين، كما يقول برجسون، أننا نبلغ هذه الأخوة الإنسانية بقفزة واحدة، دون التوقّف في محطات مثل العائلة، ثم الأمة، وغيرها.
و«الروح المنفتحة» هي بالتحديد مبدأ تلك القفزة. على عكس ما يُمكن أن نسمّيه بالروح المُتقلّصة أوالمنغلقة، التي يُرادف معنى الحب فيها «الحب المضاد»، والتي ترد على فكرة الإنسانية بأنها منشغلة بحالها وبحال كل ما يُؤثّر فيها مباشرة، وبأن في ذالك الكفاية، وبأنها ليست قادرة على تحمّل مأساة العالم بأكملها.
تجاه هذه الروح المُتقلّصة وبديهياتها الخاطئة، أكنّ في داخلي روحا منفتحة تسمح لي بالإحساس  بالإنسانية لحد أنني أكاد ألمسها، وتجعلني قادرا على أن أكون أخا في الإنسانية لمن لا تربطني به أية قرابة. وكما ورد في كتابات برجسون، أعترف أيضا أن علينا أن نجتهد دائما لنكون إنسانيين، أي أنه علينا دوما أن نُنمي هذه الروح المنفتحة وأن نعتمد عليها لإيجاد حلّ لأزمة الهجرة، يشمل الإنسانية وحسن الضيافة.

تنشر رسالة اليونسكو هذا المقال مساهمة منها في إحياء اليوم الدولي للتسامح (16 نوفمبر) واليوم العالمي للفلسفة (آخر أيام الخميس في شهر نوفمبر).

سليمان بشير دياني

سليمان بشير دياني (السنغال) فيلسوف وعالم في تاريخ المنطق الرياضي، وهو أستاذ في جامعة كولومبيا (نيويورك). ألّف العديد من الكتب في تاريخ المنطق والفلسفة، وفي الإسلام، وفي المجتمعات والثقافات الإفريقية. حصل سنة 2011 على جائزة إيدوار غليسان لمجمل أعماله.