<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 01:57:32 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
Featured articles

الحروب شرٌ من صنع الإنسان

zoltan_popovits_-_collective_memory_kollektiv_emlekezet_-_1980.jpg

Collective Memory (Kollektív emlékezet), 1980, by Zoltan Popovits
© Zoltan Popovits
فلنجعل من رماد الماضي مهداً يخرج منه طائر عنقاء جديد يحملنا على جناحيه نحو مستقبل أفضل.

بقلم تزفيتان تودوروف
 
أعلن ونستون تشرشل بعد انطفاء نيران الحرب العالمية الثانية أنّه "يجب أن نسدل الستار على كل ما شهده الماضي من أهوال". وحذّر الفيلسوف الأمريكي خورخي سانتايانا بدوره من خطر لا ينفك يهدد العالم، قائلاً "من ينسى أهوال الماضي لا بدّ أن يكررها لا محالة". الخيار الآن بأيدينا، فبين النسيان من جهة، أوالتمسك بالماضي من جهة أخرى، أي من هذين السبيلين يجب أن نسلك كي نتعافى من الذكريات المؤلمة التي شهدناها في القرن العشرين؟

قد يبدو هذان الحلان متناقضان في الوهلة الأولى، لكن ذلك من ناحية شكلية فقط  فإنهما لا يفترقان إلا ليتلاقيا. إذ تعدّ الذاكرة بطبيعة الحال تركيبة تجمع بين النسيان (طمس آلام الماضي) والحفاظ على الماضي بكل تفاصيله، الأمر الذي قد يبدو صعب المنال في بادئ الأمر. 
فإن الذاكرة تنتقي من الماضي الذكريات التي تخدم الفرد والمجتمع في حاضرهم اليوم. وتهم بعدها بتوظيف هذه الذكريات لتحقيق هذه الغاية. فإنّ الناس يفضلون بالأحرى إحياء ذكرى الفصول المجيدة من تاريخهم عوضاً عن الفترات المشينة ، ويحاول الأفراد دون جدوى تحرير أنفسهم من قيود ذكريات أليمة.

 تأتينا الذكريات عللى هيئة حصان طروادة

ما كنا لنكون على ما نحن عليه اليوم، سواء كأفراد أو كجماعات، دون ماضينا. فإن هويتنا مستمدة من هذا الماضي الذي إذا ما تخلينا عنه، فقدنا مفتاح وجودنا، فنفسح للخوف المجال ليسيطر علينا فنشعر بأن الخطر يحدق بنا من كل حدب وصوب. وعليه، فإن لدينا كامل الحق بالتمسك بهذه الهوية، وأن نعلم تماماً من نحن ولأي مجموعة ننتمي. ولكن يجب ألا ننسى أن الناس يعيشون في مجموعات مختلفة. لذا، لا يمكن أن نكتفي بالدفاع عن حقنا في الوجود، بل يجب أن نحرص أيضاً على ألا يتعدى هذا الحق على حق الآخرين أيضاً في الوجود. والماضي لا يحمل لنا سوى الذكريات الطيبة، فيجب أن نتوخى الحذر من الذكريات المسمومة التي تحثنا على الثأر ولو بعد حين.

قد تلجأ الضحية لطمس ذكريات الماضي بالكامل للتخلص مما مرت به من ذكريات عصيبة. فليس من الأفضل لامرأة انتهك عرضها أو لطفل وقع ضحية لزنى المحارم أن يتناسوا ويتصرفوا كما أن شيئاً لم يكن؟ ولكن تجارب الآخرين تعلمنا أن النسيان بالكامل قد يكون محفوفاً بالمخاطر. إذ أنّ هذه الذكريات المريرة تبقى حية فينا ولا ينفك شبحها يطاردنا. فلعله من الأفضل ان نتقبل هذا الماضي الأليم عوضاً عن التنكر له. ولا أعني أن يرهن المرء نفسه للنحيب على الماضي، بل أن يتصالح معه ويتخذ مسافة بينه وبين ماضيه شيئاً فشيئاً حتى يتأقلم مع وجوده  
فهذا هو المجرى السليم لمراحل الحزن في حياة الإنسان. إذ نرفض في بادئ الأمر تقبل فكرة خسارة شخص عزيز علينا، ونعاني بشدة من فراقه على نحو مفاجئ. ولكن سرعان ما نمنحه مكانة خاصة في قلوبنا يكون فيها كالحاضر الغائب في حياتنا دون أن نكف عن محبتهم يوماً. ونوكل أمرنا للوقت فهو وحده كفيل بالنسيان.
 

العفو والمغفرة

لا يسعى أي مجتمع إلى نسيان الذكريات المريرة التي عاشها. فعلى سبيل المثال، لا يريد الأفارقة الأمريكيون نسيان مرحلة العبودية التي عانى منها أجدادهم. وأحفاد الضحايا الذين لقيوا حتفهم رمياً بالرصاص أو حرقاً حتى الموت في أورادور سور غلان في العام 1944 لا يريدون لهذه الجريمة أن تُمحى من الذاكرة. بل يسعون حتى للحفاظ على أطلال القرية.
تقدم لنا هذه التجارب أمثلة حية على ضرورة تحايد اللجوء إلى النسيان الكامل أو النحيب على ماضينا ليل نهار. مع العلم أن هذا لا ينفي ضرورة توثيق معاناة الماضي في الذاكرة المشتركة، ولكن فليكن الهدف الأول والأخير لتوثيقها هو تعزيز قدرتنا على الوقوف في وجه ما يخبئه لنا المستقبل. وهذه هي القوة التي تولد فينا عندما نتعلم الصفح والمغفرة. فلا بد من التحلي بالقدرة على العفو في وجه ما أصابنا. فإننا لا نعفو كي نرغم أنفسنا على النسيان، بل كي ندرك أن ما مضى قد مضى ونلتفت لبناء حاضر ومستقبل أفضل. ألم يكون الفلسطينيون والإسرائيليون على حق عندما التقوا في بروكسل في العام 1998 معربين عن ثقتهم بأن الخطوة الأولى لبدء المفاوضات تكمن في طوي صفحة الماضي؟ 

لم تكن نصيحة تشرشل بالنسيان تماماً على خطاً، لكن لم يخبرنا أي درجة من النسيان قصد بالتحديد. فما الذي يمنع الذكريات من طرق بابنا؟ ففي صبيحة سقوط الشيوعية، خرج جيليو جيليف الذي أصبح رئيس بلغاريا لاحقاً، ليشدد بعد هذه التجربة على ضرورة قراءة هذه الصفحة من تاريخنا جيداً قبل أن نطويها. ناهيك عن أنّ الضحية والجاني لا ينظران للنسيان من زاوية واحدة. فالضحية إن نسيت وصفحت، فهذا لمن كرم أخلاقها وإيمانها بمستقبل أفضل، أما الجاني فيجد في النسيان مفراً من مواجهة نتائج ما اقترفت يداه.

ولكن مهلاً، هل حقاً ما يقوله سانتايانا صحيح؟ أي أن نُبقي على الماضي حياً في ذاكرتنا كي لا يتكرر؟ الأمر ليس بهذه البساطة. فإن ما يحدث في الواقع غالباً ما يكون عكس ذلك تماماً. إذ يلتمس المعتدي اليوم أعذاراً لأعماله من ماضٍ قسى عليه يوماً. فعلى سبيل المثال، برر القوميون في صربيا وحشيتهم بالهزيمة التي ألحقها بهم الأتراك في كوسوفو في القرن الرابع عشر. وبرر الفرنسيون ما اقترفوه من عدوان في العام 1914 بالظلم الذي طالهم في العام 1871. 

ووجد هتلر، من معاهدة فيرساي في نهاية الحرب العالمية الأولى، حججاً يقنع فيها الألمان بإضرام نار حرب ثانية. وبالرغم من كل ما تكبده الفرنسيون على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن ذلك لم يمنعهم بعد أن كانوا حركة مقاومة من التحول إلى قوة بطش ألحقت كل أشكال العذاب بالمدنيين في أندونيسيا والجزائر. وهذه لأدلة على أنّ من لا ينسى الماضي معرض عيش دور الجاني بعد أن كان ضحية في يوم من الأيام. فلا شيء يمنع ذاك الذي جعل منه الماضي ضحية يوماً من أن يتحول بدوره إلى جان في المستقبل. وها هم الفلسطينيون يعيشون اليوم بطشاً وظلماً، جراء محرقة اليهود التي لا تفارق ذكراها إسرائيل.
 

وقد يكون تمسك جماعة ما بماض كانت فيه الجاني أو حتى الضحية وسيلة للإعراب عن حقها في الوجود. فقد يكون هناك منفعة ما من وراء ذلك، لكن لا شيء آخر. بل قد يعني ناظريها عن الظلم الذي تمارسه بدورها اليوم.

وقد أوضحت الاحتفالات التي نظمت في العام 1995، لإحياء ذكرى مرور 50 عاماً عى قصف هيروشيما وناجازاك، هذا النوع من الذاكرة التي تبرز إما دور البطل أو الضحية. ففي الولايات المتحدة، كان الهم الشغل للناس تذكر الدور البطولي لبلادهم وتغلبها على اليابان. أما اليابان، فقد انصب محض اهتمامها على إحياء ذكرى ضحايا القنابل الذرية.

لا يمكن للكلمات أن تصف الشجاعة التي يحتاجها المرء كي ينسى الألم والمعاناة التي عاشها وأقاربه يوماً، ليلتفت للآخرين ويشعر بمعاناتهم. لكن كونك كنت ضحية في يوم ما، فإن ذلك لا يمنحك خالص الحق بأن تكون أنت وحدك الضحية. وبالمثل، تكمن خطوتنا الأولى نحو مستقبل أفضل في الاعتراف بالجرائم التي ارتكبناها في الماضي حتى وإن كانت لا تُذكر أمام المعاناة التي نعيشها اليوم.
لم يعد للماضي أي حق علينا، فهو الآن مجرد كتاب نأخذ منه العبر لنعيش حاضراً أفضل يقوم على العدالة.