<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 11:57:35 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
أفكار

نحن، خدم كوكب الأرض ومستأجِروه

cou_2_18_diagne_01_bis.jpg

الإنسان الطبيعة (2016)، لوحة مائية لفرانك لوندانجي
© Franck Lundangi / Сortesia da Galeria Anne de Villepoix

ردّا على التحدّي الذي تطرحه الأزمة البيئية العالمية، أصبح من الملح الاعتماد على رصيد الأدبيات الفلسفية والروحانية للبشرية، لما تُوفّره لنا من جميل العبر حول ضرورة رعاية الحياة بكافة أشكالها. وهذا ما يقوم به سليمان بشير دياني في هذا المقال حيث تتلاقى الرواية الفلسفية لمُثقّف أندلسي من القرن الثاني عشر مع عبارات من الحكمة الأفريقية و تأمّلات لفلاسِفة من الغرب. ويحذر الفيلسوف السينغالي: لسنا بأسياد الأرض ولا بمالكيها!

بقلم سليمان بشير دياني
 

غايتي في هذا المقال هي إمعان التفكير في أزمة أساسية، أعني الأزمة البيئية ـ وأعتبر أننا متفقون على أنها سمة العصر الذي نعيشه - وذلك من خلال تبيين ما يُوفّره تاريخ الفلسفة من إيضاحات وتوجيهات حول الإجراءات التي اتخاذها لمواجهتها. وأريد القول هنا، بالتحديد، أين يتمثّل التواصل بين الطريقة التي تتوخّاها الفلسفة لمساعدتنا على وضع سياسة للإنسانية، وبين طريقتها في إنارة السبيل نحو «تطوير إنسانية الأرض»، حسب تعبير الفيلسوف وعالم الدين الفرنسي بيار تيلار دو شاردان (1881-1955). هذه العبارة تُفيد في نظري وفي هذا السياق، واجب الإنسان ومسؤوليته في العمل بما تقتضيه الأمور، منذ اللحظة التي يعي فيها بأن الطبيعة قد عُهدت إليه كما عُهدت إلى الإنسانية القادمة. وهو ما يحملني إلى الامتناع عن اعتبار نفسي «سيّدها ومالكها»، كما جاء في العبارة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي للقرن السابع عشر روني ديكارت.

حول هذه النقطة المتعلّقة بفلسفة هي في الآن نفسه روحانية وبيئية، أودّ التذكير بمقولة المثقّف الأندلسي أبو بكر ابن طُفيل (1105-1185)، والتي عبّر عنها بطريقة بارعة في مُؤلّفه المرجعي «حيّ ابن يقظان». في هذه الرواية الفلسفية، يشرح ابن طفيل أن بالنسبة للإنسان، تحقيق إنسانيته بالكامل يعني  إدراكه الوعي بالبيئة المحيطة به، وهذا الوعي هو الذي يُمكّنه من فهم المسار الذي يرسم مصيره والمسؤولية المنوطة بعهدته لحماية الحياة على الأرض.

الإنسان المثالي

بعد ترجمته إلى اللغة اللاتينية سنة 1671 تحت عنوان« فيلوزوفوس أتوديداكتوس»، ثم إلى الإنجليزية، أصبح «حي ابن يقظان» مصدر إلهام العديد من الكُتّاب، مثل الإنجليزي دانيال ديفو، مُؤلّف رواية «روبنسون كروزو». فرواية الفيلسوف الأندلسي تروي، بالفعل، قصّة بقاء الطفل «حي» على قيد الحياة، وهو طفل ترك في جزيرة لم تسجل أبدا أي حضور بشري، وقد احتضنته غزالة وتولّت حمايتَه وتغذيتَه. ولما ماتت الغزالة، تعلّم استخدام يديه وذكاءه العملي ثمّ النظري، في ديناميكية تطوّر الفرد من الحمل إلى المنية، تُلخّص تطوّر العنصر البشري عبر العصور: يتطوّر الطفل  كإنسان مثالي أي كإنسان كامل، حسب المفهوم الصوفي الإسلامي. وبعبارة أخرى، فهو يُصبح إنسانا مُكتملا قادرا لا فقط على إدراك أساسيات الحضارة من جديد (النار خاصّة)، وإنما أيضا الاحساس بالسموّ الذي يأخذه إلى البعد الربّاني كفكرة ثمّ كتجربة. ونجد صدى لـ«فيلوزوفوس أتوديداكتوس»  في الحوار الفلسفي حول الصفحة البيضاء التي تعني قدرتنا على المعرفة قبل أن تشرع التجربة في تسجيل معارفنا عليها. وهو ما يُؤكّد التواصل بين الفكرة التي ترسمها رواية «حي بن يقظان» وكتاب « بحث في العقل الإنساني» الذي ألفه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في القرن السابع عشر .

ونسجل في الأثناء، أن تعليم تاريخ الفلسفة كما يُقدّم في جل الكتب المدرسية، لا يذكر البتة كتابا هاما مثل «حي بن يقظان» لابن طُفيل ولا التقليد الفكري الذي يندرج فيه: وهذا من شأنه أن يحثنا على إيجاد طريقة أخرى لتدريس تاريخ الفلسفة، حتى لا تكون هذه المادة منحصرة في النظرة الأوروبية.


الإنسان الطبيعة (2016)، لوحة مائية لفرانك لوندانجي

خليفة الله في الأرض

إن أول زعزعة تُحرّك ذكاء الطفل العملي ثمّ النظري، لمّا يغمره الحزن أو عدم الفهم في لحظة موت أمه الغزالة، تتمثل في مواجهة السؤال التالي: ما هو ذلك الشيء - الحياة - الذي غادر جسم الأم وجعلها لا تسمع نداء ابنها إلى الأبد؟ وللإجابة عن هذا السؤال، يشرع الطفل حي في تشريح الحيوانات الميّتة، قبل أن يُحاول اكتشاف مصدر الحياة عند الحيوانات التي ما زالت على قيد الحياة، فيبَاشر بتشريحها وهي حيّة، دون أن يعي قساوة فعله بسبب جهله وبراءته. ثمّ يتخلّى عن بحثه بعد أن سلّم بالفشل مرة أخرى. في ما بعد، لما أصبح واعيا كل الوعي بذاته، وبالله، وبالخلق، وبمَكانته الذاتية صلب هذا الخلق وبمَسؤوليته إزاءه، يدرك حي مسؤوليته في السهر على الحياة بكل أشكالها. لن يأخذ في المستقبل من الطبيعة إلا ما هو ضروري لقوته بعد التأكّد من أن القدرة  على  تجديد الحياة محفوظة تماما، وأن الطبيعة تُعيد إنتاج ما تمن به.

إن تأكيد ابن طُفيل على الوعي البيئي لدى حيّ ابن يقظان هو تصوّر فلسفي للأنثروبولوجيا في القرآن الذي يُعرّف الإنسان بأنه «خليفة الله في الأرض». وعبارة «خليفة» التي تعني «معوّض»، وقد يكون معناها الأصح «الملازم»، أو بصفة أدق «من يقوم مقام غيره»، هي عبارة تُعلّم الإنسان ما يجب أن يكون عليه، ومسؤوليته في الحفاظ على محيطه، أي الأرض. وليس لكلمة خليفة في القرآن معنى غير مآل الإنسان، رغم كل ما يمكن تضمين هذه الكلمة اليوم. إن الرسالة الهامة التي يتضمنها كتاب الفيلسوف ابن طفيل هي إذن أن الإنسان هو حارس الأرض، لذاتها وللأجيال القادمة، لأنه قد أوكل إليه أصلا بأن يقوم مقام الإله في الأرض. ونحن اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في حاجة لاستيعاب هذه المسؤولية، دون أن نعطيها بالضرورة دلالة دينية.

لنؤسس للإنسانية معا

سوف ألخّص ما أقصده في عبارة واحدة:«أوبونتو». هذه الكلمة  في لغة البانتو التي اشتهرت عالميا بفضل ديزموند توتو ونيلسون مانديلا، يمكن ترجمتها حرفيا بـ«لنؤسس للإنسانية معا»، بما يعني تحقيق ذاتي الإنسانية بفضل الآخرين، وفي نفس الوقت، التأسيس لـ«إنسانية واحدة» مع الآخرين.
وبما أنني مُؤتمن على ما يجعل مني قائما مقام الإله في الأرض، أدرك أن «التأسيس للإنسانية معا» هو نقيض سلوك المفترس، بل يُحتّم عليّ أن أحافظ على الحياة بصفة عامّة، وأن أعتبر أن الحيوانات بشكل خاص، لئن كانت لا تعبر عن الحقوق التي يُفترض أن يتم الاعتراف بها وكأنها مُعلنة، فإن تلك الحقوق هي فعلية في نظري باعتبار أن إنسانيتي تفرض عليّ واجبات نحو الحيوانات.

لست من أولئك المبالغين - في نظري - الذين  يرغبون في القضاء على المركزية البشرية، والذين يعتبرون أن مختلف العهود يجب أن تكون مُمثّلة بذاتها في نوع من «العقد الطبيعي» بدل العقد الاجتماعي. وليس من الضروري «تذويب» الإنسانية لمنعها من التصرّف وكأنها «إمبراطورية وسط إمبراطورية أخرى»، حسب تعبير فيلسوف آخر من القرن السابع عشر، باروخ سبينوزا، أي لإقناعها بأنها ليست حرّة ولا منفصلة عن مقتضيات الطبيعية. بالعكس، يجب إثبات إنسانيتنا، ولكن إثباتها بالمعنى الذي تكتسيه في الـ«أوبونتو». «أوبونتو» هو مفهوم فلسفي ذو بعد عالمي، ويبدو لي أنه يجمع في ذاته مغزى الإنسانيات ودورها، وخاصة منها  الإنسانيات الفلسفية. ومن خلال هذا العرض للكيفية التي يُمكن للفلسفة أن تنير سبيلنا، أردت طبعا أن أؤكد على مساهمتها، بل وحتى على «فائدتها». لكن قصدي ليس المبالغة في قدرة الفلسفة، ولا التسليم بضرورة وجود مردودية للمعارف لمّا يُنظر إليها فقط من زاوية تطبيقها التقني  مع الإلحاح على إمكانيات توظيفها.

لكن، وحيث أن الأمر يتعلّق بالفكر وبالعمل اللذين يخضعان لأزمات عصرنا الكبرى، أردت أن أبيّن أنه في قدرتنا ومن واجبنا الاعتماد على رواية فلسفية كُتبت في القرن السابع عشر في إسبانيا المسلمة، أو على الفكر الفلسفي الغربي أو على عبارة من الحكمة الأفريقية، على حدّ السواء. وحتى نكون قادرين على مواجهة تحديات الأزمنة المتغيّرة، علينا أن نتغذى من كل ما بلغه الفكر الإنساني في كل أنحاء العالم وفي مختلف العصور.

بعبارة أخرى، أردت أن أذكّر بأن الفلسفة والإنسانيات عموما هي التي توجه التعليم نحو غايته القصوى ألا وهي الإنسان التام، المكتمل، الإنسان المثالي، القادر على الاعتماد على معرفة التاريخ ليبتكر لنفسه مستقبلا نحن مدعوّون جميعا إلى بنائه.

 

تنشر رسالة اليونسكو هذا المقال مساهمة منها في الاحتفال باليوم الدولي للتنوع البيولوجي في 22 مايو

اطللع على عدد رسالة اليونسكو الصادر في فبراير 1988 حول البشر والحيوانات 

 

الصور أعلاه

فرانك لاندانجي Franck Landangi

سليمان بشير دياني

فيلسوف وعالم في تاريخ المنطق الرياضي، سليمان بشير دياني (السنغال) أستاذ في جامعة كولومبيا (نيويورك). ألّف العديد من الكتب في تاريخ المنطق والفلسفة، وفي الإسلام، وفي المجتمعات والثقافات الإفريقية. حصل سنة 2011 على جائزة إيدوار غليسان لمجمل أعماله.