<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 08:43:14 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
زاوية كبرى

الفن يقتحم الشارع

cou_02_19_djerbahood_web.jpg

عمل فني تشاركي للفنانين إينكمان (تونس) ونيلكو (فرنسا).

طالما اعتُبر فن الشوارع (ستريت آرت) فنّا هامشيا. وها أنه أصبح اليوم  تيّارا رائدا يفتح للجميع إمكانية التمتع بالفن ويبعث في المساحات الحضرية حيوية اجتماعية واقتصادية جديدة. في قلب جزيرة جربة، بتونس، أنجز حوالي مائة فنان ما لا يقل عن 250 لوحة حائطية لزخرفة مدينة الرياض الصغيرة، التي أصبحت تُعرف باسم جربة هود. هذا المشروع الواعد، الذي  يتوسّع باستمرار، بعثه صاحب الأروقة الفنية، الفرنسي-التونسي مهدي بن الشيخ. 

مهدي بن الشيخ يجيب على أسئلة أنيسة البراق

 

كيف تجسّم مشروع جربة هود ولماذا وقع اختيار الرياض لتنفيذه؟

أنجزت، سنة 2013، مشروع برج باريس 13 الذي حظي بتغطية إعلامية استثنائية. كان من المقرر هدم هذا البرج الكائن بالدائرة 13 للعاصمة الفرنسية، وهو ما حصل فعلا سنة 2014. ولكن، في الأثناء، أقبل حوالي مائة فنان من ثمانية عشر جنسية ليُحوّلوا البرج، بصفة تطوّعية، إلى عمل فنّي جماعي. واكتسح الفنانون وهم من أبرز المبدعين في فن ستريت آرت الواجهات والفضاءات المشتركة وحوالي 36 شقّة. ورغم أن أعمالهم كانت آيلة إلى الزوال، إلا أنها ستبقى خالدة على الواب في متناول جمهور عريض عبر العالم.

هذا النجاح شجّعني على التخطيط لمشروع آخر كنت أُفكّر فيه منذ مدّة: تنظيم تظاهرة ستريت آرت في تونس، تساهم في التعريف بالبلاد بشكل إيجابي. وقد بدت لي الرياض، في جزيرة جربة، المكان الأفضل، لما تتمتع به من نور طبيعي، وطابع معماري تقليدي جميل، وتخطيط حضري مهيكل حول ساحة مركزية، وتاريخ، فضلا عن ما يُعرف عن سكانها من حسن الضيافة الأسطوري... ولا ننسى أن جربة، إذا كانت كما يعتقد البعض جزيرة آكلي السدرة في ملحمة هوميروس، لكان أوليسيس أشهر زائريها.

تقع الرياض التي كانت تُسمّى سابقا الحارة الصغيرة على مقربة من معبد الغريبة الشهير، أحد أقدم المعابد اليهودية في العالم، والذي لا يزال يقصده إلى يومنا هذا اليهود لأداء مناسك الحجّ. وقد بناه المُهجّرون الذين فرّوا من القدس بعد تدمير معبد سليمان من طرف نبوخذ نصر الثاني، سنة 586 قبل المسيح. كان سُكّان الرياض يتألّفون بالأساس من يهود ومسلمين تعايشوا معا، كما تشهد على ذلك المعابد اليهودية الخمسة (اثنان منها ما زالا مفتوحان للممارسة الدينية) ومسجدان اثنان. لكن هذه المدينة الصغيرة غرقت في السّبات، إثر هجرة اليهود المُكثّفة خلال السنوات 1960، فبقيت على هامش النشاط الاقتصادي الأساسي للجزيرة، السياحة، رغم أنها لا تبعد عن مطار دولي إلا بستّ دقائق!

هل اعترضتك صعوبات في الإقناع بقبول المشروع محليّا؟

تحصّلت بسرعة على ترخيص من السلطات الوطنية للتدخّل في الفضاء العمومي. كانت البلاد آنذاك في فترة انتقال بعد الثورة، وقد تمّ حلّ الهيئات البلدية في كامل البلاد وتمّ تعويضها بلجان مُؤقّتة. أما الرياض، فلم تكن لها لجنة مُؤقّتة. لذلك، انطلق المشروع بفضل تبرعات خاصّة. وبدعم من بعض أصحاب الفنادق في جربة، تمكّنت من الحصول على مساهمة مالية من وزارة السياحة.

أما السكّان، فكان عليّ في البداية أن أتفاوض معهم... لم يكونوا يتصورون ما كنا بصدد فعله بالمساحات التي يملكونها. فسّرنا لهم الفكرة، وطريقة العمل. فكانت النساء بالخصوص هنّ اللاتي أقنعن الرجال بأن يتركونا نشتغل. وما أن أنجزت الأعمال الأولى حتى أصبح السكان هم الذين يطلبون منا زخرفة منازلهم.

وفجأة، استفاقت الرياض. لقد أصبحت وِجهة مقصودة ومكانا للعبور لآلاف السيّاح (فابتهج أصحاب سيّارات الأجرة!)، وفُتح العديد من المطاعم والأروقة، وارتفع سعر المتر المُربّع بشكل ملحوظ... فتغيّرت حياة السكان تماما. وهذا ما يهمّني بالأساس.

جلبت حوالي مائة فنان من ذوي الشهرة. كيف أقنعتهم بقبول المشاركة في المشروع؟

هو مشروع ذو مغزى. ما يهمّ الفنانين هو الابداع والتقاسم مع أكبر عدد من الناس. وبما أن هدفنا هو استمرارية سمعة الفنانين وليس ربح المال مباشرة من التظاهرة، لا تتضمّن العقود الممضاة معهم سوى حقوق الصورة. وفي ذلك نفع للجميع: الفنانين، والمدن، والجمهور...

هؤلاء الفنانون يحملون 34 جنسيّة مختلفة، وأنجزوا 250 لوحة حائطية! تداولوا في مجموعات كل أسبوع طيلة ثلاثة أشهر، وكانوا أحرارا في مناهجهم الابتكارية. بطبيعة الحال، كنّا جميعا على وعي بأنه لا مجال لإزعاج السكان، بصور لأجساد عارية مثلا. كان علينا احترام السكان وتقاليدهم، وليس أكثر. وتفاعل كل فنان مع المكان حسب إلهامه الشخصي.

بعد هذه التجربة، ارتفعت مكانة الفنان في جربة، ذلك أنه، علاوة على المردود الاقتصادي لهذا الفن، أدرك السكان جوهر المنهج الفني. لقد التقوا بالفنانين ونسَجوا علاقات وطيدة معهم. لم يعد الفنان في نظرهم مجنون القرية أو الشخص المُهمّش، بل إنسانا موهوبا قادرا على خلق عالم خيالي مُهيكل، وقادرا في نفس الوقت على المساهمة الفعلية في تحسين الحياة اليومية.

يظن البعض أن فن الستريت آرت لا يُمكن أن ينجح إلا في الدول التي يوجد فيها حراك ثقافي وفنّي، أي في الغرب. لكن مشروع جربة هود أكّد العكس، وبرهن على أن الابداع ليس دائما في الأماكن الأخرى، وأن أي جهة من العالم يُمكن أن تُصبح، في وقت ما، عاصمة الستريت آرت، حتى إن كانت تقع في أقاصي جزيرة.

كيف حال الأعمال الفنية في جربة هود منذ 2014؟

لم يبق منها إلا القليل... لقد عانت اللوحات الحائطية من الفارق الكبير في درجات الحرارة بين الشتاء والصيف، ومن الرطوبة، بالإضافة إلى الجير الذي تطلى به الجدران. لقد أضرّت كل هذه العوامل بالمحافظة على تلك الأعمال الفنية.

في المشروع الجديد الذي ينطلق في باريس في أبريل 2019، سوف نستعمل موادّ قادرة على الصمود أمام العوامل المناخية (الطلي البحري)، كما أن كراس شروط المدينة ينص على الترميم. ذلك هو المنهج الذي أريد سلوكه لتخليد جربة هود. سوف يقتحم المشروع هذه السنة مرحلته الثانية. غايتي هي تحويل جزيرة جربة إلى مخبر ضخم للستريت آرت، على غرار ما تمثله جزيرة إبيزا، بإسبانيا، في مجال الإبداع الموسيقي الإلكتروني.

ما هو مفهوم الستريت آرت بالتحديد؟

الستريت آرت، أو الفن في الشارع،  هو استيلاء على الفضاء الحضري بمنهج فنّي، مهما كان نوعه. يتضمّن هذا المنهج عددا من الأساليب والأجواء الإبداعية بقدر عدد الفنّانين... ويذهب من الكتابة على الجدران إلى التصوير الإيمائي أو المُلوّن، ومن النصب السمعي-الضوئي إلى الأداء البدني المتألق... يستند الفنانون في إبداعهم إلى البنية التحتية الحضرية، والهندسة المعمارية، والأضواء والظلال. وقد يبلغ حجم الكتابة الحائطية سبعين سنتيمترا كما سبعين مترا. ومهما كانت وسيلة التواصل، فالمهمّ هو اقتحام الشارع.

هذا الصنف من التعبير الفنّي وُجد منذ زمن بعيد، بل ربّما منذ كهف لاسكو الذي يعود إلى العصر الحجري القديم. وها أنه يزدهر اليوم، خاصّة في أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة، وأوروبا، والعالم العربي. ولنذكر، لو اقتصرنا على الفنانين من ذوي الأصل التونسي، الصيد، وشوف، وكوم الذين أصبحوا يتمتعون بشهرة عالمية، ويشهدون على الديناميكية الاستثنائية لهذا الشكل الفني الذي يسعى إلى بناء جسور بين الشعوب.

أذكر على سبيل المثال الفنان الصيد الذي أدخل الستريت آرت إلى مدينة القيروان، موقع تونسي من التراث العالمي. يرسم الصيد خطوطه الحائطيّة في مختلف أنحاء العالم: افريقيا الجنوبية، كندا، كوريا الجنوبية، دبي، مصر، الولايات المتحدة، فرنسا... وأعاد حسني هرتلي المعروف باسم «شوف» إحياء الخط التقليدي العربي على طريقته الخاصة، ليرسم على واجهات البنايات التونسية القديمة، مع إدراج الموسيقى والأضواء. وقد نال عرضه وايت سبيريت إعجاب آلاف المشاهدين في أستراليا وفرنسا. أما الموسيقار والخطّاط محمد كومانجي (كوم)، فهو يمزج بين هذين الفنّيْن في أعماله التشكيلية والضوئية باستعمال التقنيات الحديثة، مستلهما من التقاليد الصوفيّة. وقد ظهرت قدرات هذا الفنان الموهوب بالخصوص في عمله الإبداعي أون ذو رودس أوف أرابيا الذي انتظم في نوفمبر 2018 في متحف اللوفر أبو ظبي، بالاشتراك مع رواق إيتينيرانس.

إيصال الفن إلى الناس عوض حصره في الأماكن المُخصّصة له: أتلك هي الفائدة من الستريت أرت؟

لم يتولد الستريت آرت عن نية متعمدة لإيصال الفن إلى الناس، ولكنه في الواقع يقوم بذلك فعلا. بما أنه يُمارس في الفضاء العمومي، فهو يُعرض مجانا ويتمتع به الناس، فجأة،  عند اللف في الشارع... الستريت آرت هو أكثر الحركات الفنّية ديمقراطية، وهو أيضا الأكثر ملاءمة مع العصر: بما أنه ينشر على الواب بواسطة الصور والفيديوهات التي يقوم الفنانون أنفسهم بإنجازها، فإن سمعة الفنان تتكون على أساس أهمية عدد الجمهور الذي يتابعه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومدى الاهتمام الذي يحرزه. وحين يُصبح الفنان مشهورا، قد يختار عرض فنه في الأروقة التي تقوم بالربط بين أعماله في الشارع وبين تلك التي تُعرض في الأماكن المُخصّصة للفن.

نشهد إذا بروز نظام كامل موازٍ للفن المعاصر. سبق أن حدّثتكم عن المشروع الذي أطلق في باريس في أبريل 2019 بشارع فانسون أوريول، والمتمثل في إنشاء متحف بالمعنى الكامل لكن من نوع جديد. كل شيء فيه مدروس: الإنارة بواسطة كشّافات ضوئية تشتغل بالطاقة الشمسية، والصوت، والتدابير الكفيلة بتخليد الأعمال… إن الستريت آرت لا يلهث وراء المتاحف حتى يعرض، بل هو يتسلّى في المدينة، وينشأ تحت أنظار الجمهور، ويخلق علاقة تبادل مع السكان، ويعطى مجانا للجميع...

لكل فرد إذا إمكانية التحول إلى فنان ستريت آرت! لكن، وفي غياب رواقيّين أو أمناء متاحف، ألا تهدد ممارسة هذا الفن بتشويه المواقع التي تنتمي إلى التراث الثقافي؟ لقد تمّت مُؤخّرازخرفة قبّة في القيروان.

لنا فعلا أن نتساءل عن القيمة الجمالية لبعض الأعمال التي تظهر في الفضاء العمومي. في المقابل، يحقّ لنا أيضا أن نقول بأن القبة البيضاء لبعض الأضرحة أصبحت اليوم ذات ألوان بهيجة! حتى وإن كان بعضها ليس على غاية من الاتقان، أعتقد أننا سنحصل، بعد بضع سنوات، على نتائج جديرة بالاهتمام: الستريت آرت فنّ يتجدّد باستمرار.

لا خوف على الفنّ. قد تُقدّم بعض الابتكارات على أنها أعمال فنية، في حين أنها لا تستحق هذه الصفة لأنها موظّفة لفائدة إيديولوجيات مقيتة. لكن مثل هذه الحالة تبقى استثناء نادرا. لم يكن الفن  أبدا خطرا على أي أحد. بل بالعكس، هو أفضل سلاح ضد الظلامية، وأنا مُتيقن من ذلك.

 

الصورة: ألبوم جربة هود

 

مهدي بن الشيخ

الفرنسي-التونسي مهدي بن الشيخ أستاذ في الفنون التشكيلية، أسّس رواق إيتينيرانس بباريس منذ حوالي خمس عشرة سنة. يقوم ببعث مشاريع في الستريت آرت يشارك فيها فنانون من العالم أجمع. نُشر له كتابان حول مشروعي ستريت آرت أنجزهما في كل من باريس والرياض بجزيرة جربة: تظاهرة ستريت أرت برج باريس 13 (2013) وجربة هود، متحف ستريت آرت في الهواء الطلق (2014).