<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 08:48:38 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
زاوية كبرى

المدينة، خيمة سيرك مُرصّعة بالنجوم

cou_02_19_reverdy_01_web.jpg

الحفلات الاستعراضية، عالم مآله الزّولان، حسب تصور للفنان الفرنسي سيريل وينر. عمل بدون عنوان عدد 9 من مجموعة «يوم احتفال»، 2016 (تفصيل).

غالبا ما يختار الكاتب توما ب. ريفردي الفضاء الحضري إطارا  لرواياته. وبما أنه منشغل لحد الهوس بـ«تواجد الغياب بصفة لم تعد تطاق» في مدننا التي فقدت إنسانيتها، فقد ذهب به الخيال إلى تصور انبثاق أشكال أخرى للمقاومة، وإن كانت محدودة.

بقلم توما ب. ريفردي

 

«هذه مدن!» العبارة المشهورة تعود إلى رامبو. وهي جملة يستهل بها إحدى الأفكار العبقرية. ولم يكن يصف فيها الشاعر مدينة، وإنما خيمة سيرك، وآلاتها وسكانها-البهلوانيين، والفضاءات، والاستعراضات، والمسارات والأصوات المتعددة التي تُؤثّثها، فوضويّة، عمياء بعضها إزاء البعض، لكنها مضبوطة مثل نوتة موسيقية. خلال سنة 1872 تقريبا، أي ثلاث سنوات بعد صدور سبلين دو باري لبودلير، أصبحت المدينة مجرد صورة، وأصبح من الممكن وصفها بتعبير مجازي من خلال ما تُوحي به، دون منحها دلالة محددة. ليس على أساس الانتاج أو التجارة، وإنما على أساس الحركة، والحشود مجهولة الهويّة، والحِرف المندثرة والفقر الذي يتضح، فجأة، في شقوق الثراء الظاهر. منذ جزيرة توماس مور، تدور وقائع الخَيال الوهمي في الفضاء الحضري، في أغلب الأحيان. أما المجتمعات الخيالية المستبدة، فهي لا تخرج أبدا عن الإطار الحضري. المدينة خيال. استعراض. سيرك.

فضاءات للتنقل

في كل رواياتي تقريبا، وضعت إطار تسلسل الأحداث في المدينة. بل عليّ أن أقول بأنني نقلته إلى المدينة. تسمح المدن بالتواجد في كل مكان، والشعور بأنك في بيتك أو أنك في الغربة، وهذا التنقّل أساسي. فهو الخطوة الجانبية، النظرة المنحرفة، الفتحة في الواقع الفعلي، الإزاحة التي تخلق فجأة فضاء لبسط القصة الخيالية. عندما نقلت إذن، منذ روايتي الثانية، جزءا من الأحداث إلى بركلين، قبالة منهاتن، كنت أخضع إلى تلك الضرورة التي تُحتّم عليّ إبعاد موضوع الرواية. أبعدته بشكل مُضاعف: إلى نيويورك أولا، وهي مدينة أعرفها جيّدا بحكم زياراتي المتكررة لها، ولو أنني لا أقطن فيها؛ ثمّ إلى بركلين التي تختلف عن  نيويورك كما نتخيّلها، عندما نكون في فرنسا. هذه النقلة كانت أساسيّة بالنسبة لي، إذ دفعتني تدريجيا في اتجاه الرواية – قبل ذلك، كانت قصّتي الأولى أقرب ما يكون من سيرتي الذاتية.

لكن هذه النقلة كان لها مفعول غير منتظر: لقد فرضت عليّ فضاء. وبينما كنت أبتعد عمدا من مناطق مألوفة أكثر، أصبحت فجأة مُجبرا على مضاعفة العمل التوثيقي، والتثبّت في التفاصيل، والإيحاءات بالواقع، والصور. اكتشفت في قلب القصة الخيالية، في قلب عملية الصياغة، تشابكا مُعقّدا بين الواقع والكلمات: كنت في حاجة إلى تنقّل تمنحه لي المدينة الأجنبية، لكن حالما تمّ تحديد موقع القصّة، أصبحت في حاجة إلى الواقع كي أغذيها. ليس لواقع خام، إذ في تلك الحالة كان يُمكن لي أن أبقى في باريس، في بيتي، وإنما لواقع مروّج، لصور، لرموز، لمقاطع، لكلِمات. انطلاقا من ذكريات، ولكن أيضا من شهادات، من صور فوتوغرافية، من قصص، من روايات وأفلام، من خرائط، كان عليّ إعادة تكوين فضاء وإضفاء طابع «واقعي» عليه، وإعادة حياة السيرك لهذه المدينة.

عميان بعضنا إزاء البعض

إعجابي كبير بالكتّاب الذين تنتشر مُخيّلتهم في الفضاءات الطبيعية الكبرى، مثل كورمك ماك كارتي، أما أنا، فلديّ أسباب أخرى تجعلني أفضّل فضاء المدينة  لأنقل فيه رواياتي. ذلك أن الخيال الحديث يجب، حسب رأيي، أن يعرض مساراتنا العمياء ووضعنا المجهول. اليوم، أقطن في عمارة بباريس حيث يُحيّى الناس بعضهم البعض بانحناء الرأس عندما يلتقون في المصعد. وفي المترو، في غالب الأحيان، لا يجرؤون على النظر مباشرة إلى بعضهم البعض.  نادرا ما تسير طيلة مسافة كاملة في المدينة دون أن يعترضك على الأقل شخص واحد وهو يتكلّم مع نفسه بشكل مُحيّر، ومُتسوّل أو أكثر، وشخص تبدو عليه ملامح اضطراب اجتماعي وربما ذهني، وفي بعض المحطات شخص مُدمن على المخدرات، يقف في آخر الرصيف وهو يدخّن الكراك. وتعثر أحيانا على شخص كنت قد شاهدته من قبل. شخص قد اعترضته سابقا في الحي أو في المترو في نفس التوقيت. ورغم ذلك، لن تتعرّف أبدا على اسمه، ولا على مهنته، ولا على سبب سعادته في ذلك اليوم. ذلك المتسوّل الذي يتكلّم بصوت عالٍ وهو يختار عباراته، بلهجته الأجنبية الخفيفة، من أين أتى وكيف وجد نفسه هنا؟ هؤلاء الشبان الذين يبدون وكأنهم مُتنكّرين، هل هم ذاهبون إلى احتفال؟ أو إلى حفلة موسيقية؟ ماذا يدرسون؟ بأي مستقبل يحلمون وهل سيُحقّقون حلمهم؟ تلك هي الخيالات الحديثة. نحن شعب مُتكوّن من أناس مجهولي الهوية، نتقدّم في حياتنا الصغيرة كالعميان الذين لا يرون بعضهم البعض. وجودنا المضبوط حسب توقيت مرور قطارات ضواحي المدينة ما زال صامدا شيئا ما، في أعماق قلوبنا، ضد المدينة-الآلة، لكن علينا أن نعترف بأن مقابلة بسيطة أصبحت معجزة. ولم يعد بإمكاننا اليوم أن نكتب قِصص حياة جوليان سورال، أو فريديريك مورو، أو بيل آمي1.

هناك أيضا الاعتداءات. وربما هي السبب في هذا الوضع. في 11 سبتمبر2. منذ ذلك الحين، كل الأسماء منقوشة على حجر أسود، لإعطاء اسم لمن هم مجهولي الهوية. أبطال اليوم مجهولو الهوية.

هشّة مثل الذاكرة الإنسانية

عدت إلى نيويورك سنة 2008، لأكتب «الوجه الآخر للعالم». تدور أحداث الرواية سنة 2003، في فوهة غراوند زيرو. يقع اقتراف جريمة قتل عنصرية، أو لنقل إنها اعتُبرت عنصرية. تتمّ ملاحقة الأشخاص الذين يحومون حول هذه القصّة كما لو كانوا حول مركز مفرغ، أمام خلاء غير مفهوم، وكانت طبعا ظلال البرجين التوأمين  تخيّم على الموقع. وتبرز المدينة هنا إحدى خصائصها التي يمكن أن نُسمّيها بطابعها الجيولوجي: المدينة مُتكوّنة من طبقات. ولما تكون مشتغلة، تنسى تلك الطبقات لكن الأماكن تحمل آثارها. تُسجّل المدينة التاريخ في حياتنا اليومية. كانت سنة 2003 لحظة انتقال الولايات المتحدة من الحرب العقابية في أفغانستان إلى الحرب الوقائية في العراق. وكانت أيضا السنة التي تمّت خلالها المصادقة على مشروع دانيال ليبسكند الرائع. في موقع فوهة غراوند زيرو، التاريخية والرمزية، انقلب برجا وورلد ترايد سنتر لِينغمسا في الأرض، وأصبح هذا المكان المشحون بالمعاني مكانا غريبا وانتِقاليا: فهو لم يعد ساحة توين تاورز ولم يُصبح بعدُ ساحة فريدوم تاور. كان مكانا يحمل ذاكرة هشّة مثل هشاشة ذاكرة بشرية. كان يبدو لي أنه يعود للفن اليوم، تثبيت هذا الصنف من الأمكنة التي تمثل أيضا حيّزا من الزمن. ويعبر عمل ليبسكند، بذكاء مبهر، عن ذلك بأسلوبه الخاص، من خلال حفر تلك الآبار المظلمة اللامتناهية في مكان البرجين المُضمحلّين. فينطبع في الفضاء غياب البرجين.

إذ ذلك هو معنى الحداد، كما الذكرى، كما الأنقاض، ومادّة الكاتب الملعونة، أو مادّة أي فنان كان،  ذلك ما يعني بالتحديد:تجسيم الفراغ بصفة لا تطاق.

أخذت في مطاردته. في اليابان، وفي فترة ما بعد فوكوشيما3، حيث أقمت لكتابة «لي إيفابوري» (المتبخّرون)، الذي يروي قصّة مفقود بمحض إرادته يعترض طريق التعساء الذين فقدوا جذورهم جرّاء الكارثة. طاردته في ديترويت بميشيغان، حيث كانت المدينة الكبيرة بصدد الوقوع بالكامل في الإفلاس، وقد اختفى ثلثا سُكّانها، جرفتهم الأزمات الاقتصادية والأزمة المالية لسنة 2008. ديترويت المدينة-الآلة، مدينة فورد وجنرال موتورز، متروبوليس4 الحلم الأمريكي الذي يلتهم أبناءه. ديترويت التي تختنق دون سكان، أول مدينة من هذا الحجم  تعيش مثل هذا الوضع، «مثل الكناري في منجم الفحم» كما حذّر أولئك الذين اتّهموا البنوك وأوساط الأعمال بعدم المسؤولية. ديترويت، التي أضحت أنقاضها، مثلما لو كانت لحضارة بعيدة، مصانع، فضاءات تجارية كبرى، مدارس أو مسارح، مغمورة  بالنباتات، شبيهة بنوع مأساوي من كوكب القردة5. الحلم المُزعج والتنبّؤي لكوكب تخلّص منّا.

لم أذهب إلى ديترويت خلال فترة كتابة الرواية. كان هناك عدد لا يحصى من الصور، ومَقالات لصحفيين من ديترويت فري براس مثل شارلي لودوف، وغيره. المشكلة ليست في الاستِرشاد، والتعرف على ما يحدث، أو تحديد موقع الأشياء. بالعكس، كانت أحداث ديترويت مُوثّقة حتى التخمة. كانت المشكلة تكمن في الخروج منها.

الصمود أمام سحر عازف الناي

من بين الأفكار التي راودتني، التماثل بين أزمة السيارة تلك، وقصة عازف الناي، للمؤلف الألماني هاملين التي تعود للقرون الوسطى: قرية اجتاحها الطاعون تستنجد بعازف ناي سحري، فيدفع بالفئران بعيدا عن القرية ويُغرقها في النهر. لكنه، عندما يعود، لم يتم دفع مستحقاته: فالمال مفقود. ودون شفقة، يستميل عازف الناي السحري أطفال القرية ويأخذهم معه. ثم يُغرقهم في النهر. في بداية القرن، كان عازف الناي المنتمي للرأسمالية الصناعية يستهوي في ديترويت كافة العمال الفقراء في الجنوب الريفي للولايات المتحدة، وخاصة منهم السود، ويعدهم بمستقبل مُشرق. في ذلك العهد، كان عازف الناي يبيع منازل وسيارات مع الدفع المُؤجّل.

وعندما امتنع الناس عن تسديد الدين، حين تمرّدوا خلال أحداث سنة 1967، اغتاظ عازف الناي. وغادر مع الشغل إلى الصين، وفي ديترويت وقع الناس من جديد، شيئا فشيئا، في البؤس. رغم قساوتها، توحي هذه القصة  بمخيال صبياني. لذا، من بين القصص المذكورة في روايتي، قصّة فرار مجموعة من الأطفال ينتهزون فرصة الفوضى التي عمت في وسائل النقل والمدارس، في المدينة، ليقوموا بنوع من المغامرة، في أرض بور، بمدرسة مهجورة. وضعية قريبة نوعا ما من جزيرة الكنز6. إلا أنه بقي لديّ مشكل مع الواقع. فقصّتي تندرج في الفترة ما بين إفلاس مؤسستين: إفلاس ليهمانس براذرز، في 15 سبتمبر 2008، وإفلاس جنيرال موتورز7، في غرة جوان 2009. وكلاهما يمثل حدّا تاريخيا وموضوعيا. إلا أن الأطفال لم يكن بوسعهم البقاء على قيد الحياة طيلة تلك الفترة. شرعت في متابعتهم ليلة عيد جميع القديسين، خلال ليلة ديفيلز نايت8: أضرموا النار في منزل مهجور. وبعد بضعة أيام، لاذوا بالفرار. كان ذلك في أوائل شهر نوفمبر. وفي نهاية الأمر، قررت أنه بإمكانهم الصمود حتى عيد الميلاد. وهو حد أقصى معقول. لكن ذلك أرغمني على قلب كل الواقع.

في الرواية، جنيرال موتورز لم تعد جنيرال موتورز، بل أصبحت «المؤسسة». اضطرب التسلسل الزمني. أعدت النظر في كافة وثائقي حتى أحصرَها في مدة شهرين. وفجأة، ها أن كل شيء يتّضح. منطق الخيال يفرض نفسه على الواقع. فإذا تواصلت قصتي حول ذلك المجتمع الاستبدادي، والإفلاس، والغابة الحضريّة، حتى عيد الميلاد، يكون فصل الشتاء قد حل. الطقس بارد في الشتاء في ديترويت. وفجأة، تُصبح هذه المدينة، التي شاهدت منها ألف صورة، أكثر من مجرّد ديكور. بدأت تتحرك بشكل عضوي. أعاين ذهنيّا الثلج وهو يتساقط على العشب، ويخفف من وقع الخطوات. أرى الريح يندفع عبر النوافذ الخالية للعمارات الشاغرة وهو يُصفّر في دورانه داخل البيوت المهجورة. يُمكن لي أن أحسّ بالبرد الممزوج بطعم المعدن وهو يتسلل داخل الملابس المبتلة التي لا شيء يقدر على تدفئتها. أرى هالات الإنارة العمومية تنطفئ، وقد عوّضها لمعان الثلج الغريب تحت القمر الفضّي. ديترويت هذه، الوهمية، الخيالية، ليست واقعيّة أكثر من الحقيقة – في ديترويت الحقيقية في تلك الفترة، يموت الناس كل يوم. لكنها تُصبح قابلة للتواصل والاستعراض. في المدينة-الآلة، يمكن لنا أن نتخيّل مُجدّدا مصير بعض البشر. مقاومات ضئيلة. وإذا ما تواصلت القصّة إلى يوم عيد الميلاد، فذلك يعني أنها حكاية، و ليس بالضرورة حكاية قاسية. وقد يتمكّن الأطفال من النجاة.

وتُصبح المدينة سيركا من جديد، حيث يتقرر مصير بهلوانيين مجهولي الهوية، دون شبكة وقاية، ينزلقون من أرجوحة إلى أخرى، يتلامسون دون أن يرى بعضهم البعض، ويلتقطون بعضهم البعض في الهواء، آملين شيئا من الراحة، أو ملاقاة، كمعجزة في مستوى الإنسان، تحت خيمة سقفها مُرصّع بالنجوم.

 

الصورة: سيلفانا ريجياردو، مصورة فوتوغرافية

توما ب. ريفردي

وُلد الكاتب الفرنسي توما ب. ريفردي سنة 1974، وقد أحرز على عدة جوائز عن رواياته نذكر منها بالخصوص آخر الأضواء (2008)، ظهر العالم (2010)، المُتبخّرون (2013)، قصّة مدينة (2015)، شتاء السخط (2018).