<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 08:41:54 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
زاوية كبرى

روسيا: مدن تتحول نحو اقتصاد متنوع

cou_02_19_russia_web.jpg

مناخ قطبي، تلوث، إقصاء. تحاول المصورة الفوتوغرافية الروسية إيلينا شرنيشوفا، من خلال مجموعتها «النهار ليلا - الليل نهارا» أن تتفهم قدرة سكان مدينة نوريلسك (روسيا) على التأقلم مع ظروف العيش القاسية.

تداولت الصحافة الدوليّة على نطاق واسع أزمة ديترويت. وسمعنا الكثير عن إفلاس هذه المدينة الأمريكية في يوليو 2013 ثم عن نهضتها، وهي المدينة التي راهنت بكل إمكانياتها على صناعة السيارات… وخسرت كل شيء. لم نسمع إلا القليل عن المدن الروسية ذات النشاط الاقتصادي الواحد التي لقيت نفس المصير. يبلغ عدد هذه المدن، التي تُسمّى أيضا المدن-المصانع، 319 مدينة في روسيا. كيف تجاوزت وضعها؟

بقلم إيفان نستيروف

 

نحن الآن في يوم 2 يونيو 2009. يعيش العالم واحدة من أقسى أزماته المالية. في الشمال الغربي لروسيا، الطريق السيارة الفدرالية الرابطة بين نوفايا لادوغا وفولوغدا مُعطّلة. حوالي 300 ساكن من قرية بيكاليوفو الصغيرة، في إقليم لينينغراد، [منطقة عاصمتها سان بيترزبورغ]، يُقيمون حاجزا في الطريق. لم يحصلوا على مُرتّباتهم منذ أشهر طويلة. المصانع الثلاثة التي ترتزق منها المدينة والتي تكوّن سلسلة إنتاج مُوحّدة، تحوّلت ملكيتها من الدولة إلى أيادي ثلاثة خواصّ: بازل سيمنت، ومجموعة أوروسيمنت، وفوساغرو. لكن المالكين الجدد لم يتفقوا على جملة من المسائل، وخاصّة منها سعر المواد الأولية، وحجم الإنتاج وآفاق التنمية. فبقي في تلك المدينة الصغيرة التي تعد 21.000 ساكن، 4.000 ساكن دون شغل.

وقد استوجب الوضع تدخّل الوزير الأول فلاديمير بوتين شخصيّا لحل الخلاف. فتحوّل إلى بيكاليوفو، يوم 4 يونيو، واجتمع بالمالكين الذين أمضوا، في آخر الأمر، على اتفاقيات تزويد بالمواد الأولية وعلى عقود على المدى الطويل. ووفر البنك الوطني ف.ت.ب [بنك التجارة الخارجية] المال الضروري لحل المشاكل المالية (رواتب الأجراء، ديون إزاء المُزوّدين وشاحني المواد الأوليّة). وانطلق الإنتاج من جديد.

إلا أنه من الواضح أن التدخّل الشخصي لوزير أول أو رئيس دولة لا يمكن أن يمثل نموذجا دائما لحل الأزمات. خاصّة وأن المشاكل، في أغلب الأحيان، لا تكمن في الخلافات بين أصحاب المؤسسات بل في افتقاد المؤسسات للأسواق. ولقد أحدث، فعلا، انتقال روسيا إلى اقتصاد السوق في بداية السنوات 1990 جملة من المشاكل الحادّة في المدن ذات النشاط الاقتصادي الواحد.

وعلى رأس القائمة، البطالة التي  تبلغ نسبتها ضعف المعدل الروسي. زيادة على ذلك، فإن تصميم هذه المدن يستجيب لصِفتها الصناعية وليس لاحتياجات السكان من حيث رفاهية العيش. وأصبحت المشاكل المتعلقة بالتلوّث، وتخلّف البنى التحتية، والتعليم، والصحة مُتكرّرة. والأسوأ هو أنها أُنشئت، في الغالب، في مناطق نائية من البلاد، ونظرا للأسعار الباهظة لتذاكر السفر جوا، أصبح السكان بمثابة الرهائن. وإن تمكّنوا من السفر بالطائرة، فذلك يعني أنه ذهاب بدون رجعة.

كيف تكونت المدن ذات النشاط الاقتصادي الواحد؟

13،2 مليون ساكنا، أي ما يُقارب روسيّا واحدا من عشرة، يعيشون ويشتغلون في واحدة من المدن-المصانع الروسية التي يبلغ عددها 319 مدينة. ومهما اختلفت تلك المدن فإن قاسمها المشترك هو أن موارد عيشها تعتمد كليّا على شركة واحدة، أو مجمّع شركات، تُشغّل على الأقل ربع سكان المدينة. وقد تشكلت جميعها حول معامل أو مراكز كبرى للصناعات الغابية ومناجم المواد الأولية (ذهب، حديد، فحم، نفط، غاز، أباتيت، الخ...). وحتى نعود إلى بيكاليوفو، فقد تم إنشاء المدينة ومصنع الإسمنت سنة 1935 في المنطقة المجاورة للمحطة الحديدية التي تحمل نفس الاسم، حيث وقع اكتشاف مناجم من الحجر الجيري وطين الاسمنت، قبلها بخمس سنوات.

ويعود ظهور أولى المدن-المصانع الروسية إلى القرن الثامن عشر، في أعقاب إصلاحات القيصر بيار الأكبر الذي شجّع آنذاك على فتح مشاغل لنسج الأغطية وسبك الحديد. أما الموجة الثانية من التطوّر السريع فجاءت خلال القرن التاسع عشر، مع ظهور معامل للنسيج وتطوير الصناعة الخفيفة. إلا أن أغلبية هذه المدن أُنشئت في إطار مخططات هائلة للتصنيع قررها ستالين خلال السنوات 1930، وكانت تتمحور بالخصوص حول الدفاع.

في الوقت الراهن، تعدّ هذه المدن أكثر من 400 مؤسسة كبرى، منها، على سبيل المثال، شركة السيبيرية للفحم والطاقة ، وشركتي المناجم والصناعات المعدنية سيفرستال وميشال، أو الرائد العالمي في استخراج الألماس ألروزا. ومن بينها مؤسسات على ملك الدولة مثل روستاك التي تصنع وتُصدّر المواد الصناعية ذات التكنولوجيا العالية لأغراض مدنية وعسكرية، وروزاتوم، مفخرة روسيا في الصناعات النووية، وغيرهما كثير.

تتوزع المدن-المصانع على كامل تراب روسيا تقريبا، لكنها تُوجد بكثافة بالخصوص في سيبيريا وفي الأورال. ففي إقليم كيميروفو مثلا، هناك 24 مدينة من هذا الصنف، وفي إقليم سفاردلوفسك 15، وفي إقليم خانتي-مانسي المتمتّع بالاستقلال الذاتي 14. بعضها لا يفوت عدد سكانها الألف، كما هو شأن القرية المعدنية بيرينغوفسكي، الواقعة في أقصى شرق روسيا. في حين تعدّ مدن أخرى مئات الآلاف: 712.000 ساكن يعيشون في تغلياتي، عاصمة صناعة السيارات الروسية، و517.000 في نابيريجني تشالني التي تأوي معامل إنتاج الشاحنات كاماز. لكن أغلبها، أي 261 بلدة، لا يفوق عدد سكانها 50.000 نسمة.

استراتيجية جديدة

إن المشاكل التي تُواجهها المدن ذات النشاط الاقتصادي الواحد هي من أهم المخاطر التي تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في روسيا.

وبعد أزمة بيكاليوفو، أعدّت الإدارة التابعة للدولة قائمة في هذه المدن، وقام الخبراء بتصنيفها في ثلاث فئات: مدن تتّسم بوضع اجتماعي واقتصادي حرج (منطقة حمراء، 94 مدينة)، مدن مهددة بتدنّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي (منطقة صفراء، 154 مدينة)، ومدن يتّسم الوضع فيها بالاستقرار (منطقة خضراء، 71 مدينة).

في سنة 2014، اعتمدت الحكومة استراتيجية تنمية خاصة بالمدن ذات النشاط الواحد، ترتكز أساسا على تنويع نشاطها الاقتصادي، وعلى الاستثمار وخلق مواطن شغل جديدة. واستعانت ببنك روسيا الفدرالية للتنمية المختص في تمويل المشاريع الكبرى الرامية لتطوير البنية التحتية، والصناعة، والنشاط الاجتماعي والإمكانيات التكنولوجية للبلاد، وكلّفته بوضع الآليات المالية التي تُمكّن المدن-المصانع في المنطقة الحمراء من الخروج من الأزمة، مع إيلاءها الأولوية. ولتحقيق تلك الغاية، أنشأ البنك صندوقا خصصه لتنمية المدن-المصانع.

وبعد الانتهاء من وضع هذه الاستراتيجية، تم تكوين فرق من مختلف المدن ذات النشاط الواحد لتحسين قدراتها في مجال الاستثمارات وبعث المؤسسات. وقد أسند هذا التكوين إلى معهد متميز يعد من بين أحسن المعاهد الخاصة في مجال التجارة، يقع في سكولكوفو، سيليكون فالي الروسية.

الدولة ليست شحيحة

ويعمل صندوق تنمية المدن-المصانع اليوم مع فرق مُتألّفة من مقاولين وإداريين من المؤسسات المحلية والجهوية. وقد صاغت أغلب المدن-المصانع برامج تنموية وصادقت عليها، وهي برامج تأخذ في الاعتبار خصوصياتها المحلية، والمناخية، والاقتصادية والاجتماعية وما يُميّز انتاجها، وقد تمّ ادماج تلك الخصوصيات في المخططات الاستراتيجية لتنمية الجهات.

يدفع الصندوق للجهات الأموال اللازمة للمشاريع، ويعهد التنفيذ إلى المؤسسات المحلية والوطنية، بالتعاون مع السلطات البلدية. كما يُوفّر الصندوق الموارد والكفاءات، ويُراقب المصاريف ويسهر على تبادل أفضل الممارسات للاستفادة منها. وحتى يجلب الاستثمارات، أبرم خلال سنتي 2016 و2017 مع الجهات 29 اتفاقية للتمويل المشترك لعمليات إعادة بناء البنى التحتية بقيمة 14،3 مليار روبل (حوالي 217 مليون دولار). ومن المنتظر أن تفوق الاستثمارات في المدن-المصانع بمساعدة الصندوق المباشرة، مبلغ 106 مليار روبل (أكثر من 1،6 مليار دولار).

في سنة 2016، دخل البرنامج الأولوي للتنمية المندمجة  في المدن ذات النشاط الواحد حيّز التنفيذ، على المستوى الفدرالي. ويهدف هذا البرنامج إلى خلق مؤسسات صغرى ومتوسّطة أو مؤسسات فردية، مرتبطة بأنشطة جديدة من المنتظر أن تُوفّر 230.000 موطن شغل. وفي ما يخص بيكاليوفو، مثلا، يُنتظر خلق أكثر من 1700 موطن شغل من أصناف مختلفة – إنتاج الخضر في البيوت المكيّفة، والملابس الرياضية، والأثاث، الخ. – لغاية سنة 2030. وينصّ المخطط التنموي على استثمار 20 مليار روبل (303 مليون دولار) في اقتصاد المدينة.

ومن بين الامتيازات الأخرى ذات الأهمّية: إنشاء مناطق للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المتقدّمة تتمتّع فيها الشركات بامتيازات جبائية غير مسبوقة. وتتضمن الإجراءات المُطبّقة بالخصوص التخفيض من الضرائب على المرابيح، وعلى ممتلكات الشركات، وعلى العقارات وعلى الاستغلال المعدني، وكذلك التخفيض في أقساط التأمين. وفي نهاية عام 2018، بلغ عدد هذا الصنف من المناطق صلب المدن-المصانع 63 منطقة، مع أكثر من 200 شركة مسجلة.

المؤسسات الكبرى: السند الثاني

غير أن الدولة ليست قادرة  بمفردها على حل كل المشاكل المتعلقة بالمدن ذات النشاط الواحد. فتولت الشركات الكبرى المشاركة في هذه الجهود. وفي 2017، وضعت شركة نورنيكل سلكا للإنترنت بالألياف البصرية بقيمة 2،5 مليار روبل (أكثر من 38 مليون دولار) في نوريلسك، الواقعة على بعد 300 كلم شمال الدائرة القطبية الشمالية. وفي سنة 2018، تولّت الشركة المعدنية كولمار تطوير السياحة الجهوية في ناريونغري، في إقليم ياقوتيا، من خلال الاستثمار في إعادة بناء المطار المحلّي.

هذا وانطلقت الشركات الكبرى في تشجيع الصناعة الخضراء. من بينها شركة تانيكو للنفط والغاز، في نيجنيكامسك بإقليم تاتارستان، التي ساهمت سنة 2008 في تمويل مشروع تحديد الكمية القصوى الوحيدة المسموح بها لانبعاث المواد المُلوّثة، وقد أصبح منذ ذلك التاريخ بمثابة المعيار في مراقبة الانبعاثات الضّارّة. وفي سنة 2016، أغلقت شركة نورنيكل مصنع إنتاج النيكل في نوريليسك، وهو من أقدم مصانع  النيكل وأشدها تلوثا. وقد أدى إغلاق المصنع إلى انخفاض الانبعاثات الضّارّة بنسبة 30%. وفي سنة 2017، جهزت شركة ميشال مصنع تخصيب الفحم الواقع في نيرنغري بآلات تسمح بتجميع 98% من الغبار والغازات المنبثقة. أما شركة كولمار فقد شيّدت مصانع للتخصيب في حلقة مُغلقة حيث يتم تصفية المياه المُستعملة لإعادة استغلالها من جديد في الإنتاج.

وإلى أن يتم الكشف عن النتائج الملموسة لكل هذه الإجراءات في أفق 2025، من المنتظر أن يعلن صندوق التنمية، خلال السداسي الأول لسنة 2019، عن قائمة المدن الثمانية عشر ذات الاقتصاد المستدام التي لم تعد مصنفة ضمن المدن ذات النشاط الواحد. والمُرشّحة الأولى للخروج من هذا الصنف هي مدينة تشيريبوفاتس التي تعد 318.000 ساكن. فبعد أن كانت سابقا مركزا لصناعة الحديد الصلب، أنشأت فيها شركة فوسآغرو سنة 2017 مركبا لإنتاج الأسمدة المعدنية. كما سجلت المدينة إنشاء عشرين ألف مؤسسة فردية تشغل ربع القوى العاملة.

 

الصورة: إليلينا شرنيشوفا، مصورة فوتوغرافية​​​​​​​

إيفان نستيروف

صحافي وأخصّائي في حشد الاستثمارات في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأدنى. ساهم إيفان نستيروف (روسيا) في الفترة ما بين 2008 و2018، في التعريف بمشروع التنمية المندمجة لياقوتيا الجنوبية الذي يعد أكبر مشروع للإستثمار على المستوى الوطني في روسيا.