<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 08:38:39 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
زاوية كبرى

شطارة وإبداع في شوارع كينشاسا

cou_02_19_debrouille_web.jpg

كينشاسا، المدينة-السوق.

إن كنت فقيرا، كيف لك أن تعيش في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية متتالية وطويلة الأمد؟ «دبّر أمرك!» هذا هو شعار سكان كينشاسا، في جمهورية كونغو الديمقراطية، الذين لا يفوّتون فرصة لاستغلال براعتهم لابتكار مهن جديدة. في أسواق هذه المدينة العظمى وشوارعها، انتشرت أعداد لا تحصى من أصحاب مهن غير مألوفة، من «روماني»، و«شحّان» و«قذّافي»، لسد ثغرات النظام.

بقلم سيلفي أييمبام

 

ها نحن في جمهورية كونغو الديمقراطية، في وسط العاصمة كينشاسا. يجلس ثلاثة شبان من مسّاحي الأحذية على أحجار أمام مدخل إحدى المدارس، ومعهم معدات مختلفة: كراسي، ومساند للأقدام، وفرشات وممسحات. على مقربة منهم، شاب آخر يركز اهتمامه على مراقبة شبكة للشحن الكهربائي صنعها بذكاء حسب الإمكانيات المتاحة: لوحة خشبية صغيرة مجهزة بعدة مناشب للتيار، موصولة بأسلاك كهربائية منبثقة من الأرض، آتية من قاعدة مصباح عمومي  مُعطّل. هذا الشاب يدعى شارجير (شحّان).

وإن كان مسّاحو الأحذية يشكلون منذ أمد بعيد جزءاً لا يتجزأ من المشهد الحضري، فإن شحّاني البطاريات ظهروا بالتزامن مع الهواتف المحمولة. في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كانت مدينة كينشاسا تعج بوحدات إنتاج صغيرة الحجم: مصانع أحذية أو دهن، ومحلات نجارة ومصوغ، وورشات نسيج أو صباغة... كانت تلك الوحدات تنتصب خاصة في الفناء الخلفي للعمارات، وتتكاثر بسرعة فائقة. ومنذ منتصف التسعينات، انتشرت أنشطة التجارة والخدمات وأصبحت تحتل واجهات الشوارع.

إن العيش في كينشاسا، بين سكانها الذي يبلغ عددهم أحد عشر مليون نسمة، يقتضي بالضرورة التعويل على النفس. ذلك أن الأزمة الاقتصادية، وقصور الدولة والمرافق العمومية، وندرة مواطن الشغل مدفوعة الأجر تُجبر سكان المدن على كسب رزقهم من خلال ممارسة أشكال متنوعة من الأنشطة الفردية المتواضعة أو اللجوء إلى أية وسيلة أخرى.

وفي محيط تأمه الفوضى والفقر المدقع، يصبح تدبير الأمور نمطا للحياة بالنسبة لسكان المدن الذين يستغلون كل مهاراتهم في هذا المضمار، حيث أنهم، وخاصة منهم الشباب الذين يشكلون أكثر من نصف سكان مدينة كينشاسا، جعلوا من الاعتماد على النفس لتدبير أمورهم ركيزة لكافة الاستراتيجيات التي من شأنها أن تضمن لهم موارد العيش.

الضرورة تولد الإبداع

على غرار هؤلاء الشحّانين، الذين يسدّون نقائص نظام توزيع الكهرباء في المنازل في عصر تلاقي فيه الهواتف المحمولة نجاحاً باهرا، يبتكر غيرهم من سكان المدينة مصادر أخرى لضمان مداخيلهم، مستغلين قدراتهم الذاتية وأدنى الفرص المتاحة لإثبات الفائدة من خدماتهم، فيبعثون أنشطة تلبي شتى الاحتياجات، اعتمادا على وسائل في منتهى البساطة.

ويكفي توفير بعض المعدات - طاولة، ومقعد، وبعض أواني الطبخ وكمية من الفحم - لإنشاء ماليوا (مطعم متواضع)، حيث يمكن تناول وجبة بأقل الأثمان مقارنةً بأماكن أخرى، حتى وإن كان مستوى النظافة متدنياً في بعض الأحوال. وما العمل لما تكون الحافلات مكتظة؟ لا بأس ! لأن الويوا (درّاجات نارية بالأجرة) متوفرة لنقل الركاب. ولما تغمر مياه الأمطار الشوارع؟ الحمّالون على الظهر حاضرون لمساعدة المارة على عبور الطريق. وغير هؤلاء كثيرون، من بائعي قطع الغيار المستعملة، ومصلّحي الهواتف، وبائعات المياه المتجولات… كلهم على استعداد لتوفير المساعدة للجميع في أي وقت.

وبالتوازي مع ظهور هذه الأنشطة - وهي في أغلب الأحيان خدمات وساطة - برزت مصطلحات جديدة في اللغات المحلية. لقد تم سد الفراغ الناجم عن القصور في تنظيم البنية التحتية سواء كانت تابعة للقطاع العام أو الخاص، بانتشار أصناف متعددة من السماسرة والوسطاء الذين يعرضون خدماتهم بصفة فردية أو مجتمعين في شبكات.

في الشوارع والأسواق، وفي كل مكان تُعقد فيه الصفقات التجارية، بما فيها مواقف السيارات، ومفارق الطرق الرئيسية، ومحطات الحافلات والموانئ النهرية، يتولى الأمور كل من الرومان (المهربون عبر الحدود)، والبانا كواتا (جالبو الزبائن لمتاجر الملابس المستعملة)، والشايير (السماسرة لصالح تجار الجملة)، وكذلك القذّافي (بائعو الوقود في السوق الموازية)، والشارجير (جالبو الزبائن لصالح سيارات الأجرة والنقل الجماعي، الذين لا ينبغي الخلط بينهم وبين شحّاني البطاريات!)، والكامبيست (الصيارفة في الشوارع)، فضلاً عن ماما مانوفر (وسيطات تجارة المواد الغذائية في الموانئ النهرية).

المادة 15

في منتصف ثمانينات القرن الماضي، نالت أغنية «المادة 15، بيتا ليبانغا»، للفنان الكونغولي بيبي كالي (1951 ـ 1998)، نجاحاً كبيراً في جميع أرجاء القارة، ويعود ذلك، دون شك، إلى أنها تعكس صورة صادقة لظروف حياة الكثير من الأفارقة. لكن المادة 15 ليست إلا مادة خيالية في دستور جمهورية كونغو الديمقراطية تنص على ما يلي :«دبِّر أمورك كي تعيش!» وأصبح يعرفها كل الكونغوليين ويذكرونها يومياً. أما عبارة «بيتا ليبانغا» فهي تعني حرفياً «عليك بكسر الحجر». لقد قام بيبي كالي بالتنبيه إلى أن تدبير الأمور ليس يسيرا.

ويهتف بيبي كالي في أغنيته بلغة لينغالا :«المادة 15، أعزائي، دبّروا أموركم كي تعيشوا. شاهد المرفأ النهري: الحمالون ينقلون أعباء ثقيلة؛ شاهد مراقبي التذاكر في الحافلات: إنهم يصيحون من الصباح حتى المساء؛ انظر، لقد انتشرت المحلات الصغرى في كل أرجاء المدينة؛ شاهد سائقي سيارات الأجرة والحافلات: إنهم لا يتخلون عن المقود من الصباح حتى المساء؛ انظر إلى حالنا نحن معشر الوسيقيين: إننا نغنّي كي نكسب رزقنا؛ شاهد التلاميذ: إنهم يدرسون لبناء مستقبلهم».

غير أن المستقبل المأمول ما زال بعيداً، وفي انتظار بلوغه، لا خيار غير تدبير الأمور في كينشاسا، كما في العديد من المدن الأفريقية الأخرى. لقد أصبح تدبير الأمور نمطا للحياة، ومؤشراً للهوية الحضرية التي يتميز بها الفضاء الاجتماعي في كينشاسا. أما الاقتصاد الموازي، الذي يُعزى انتشاره في المقام الأول إلى حالات النقص المزمنة، والفقر وعدم الاستقرار السياسي، فهو لا يخلو من التحيّل، والألاعيب والمخاطر، فضلاً عن النزاعات والعنف. غير أنه يحمل قيما اجتماعية، مثل التعايش، والتضامن، والاحترام والإخلاص. كما أنه يساهم، في نهاية المطاف، في تحقيق نوع من التعديل الذاتي للمجتمع.

وإن كانت، دون شك، المؤسسات منهارة، والإدارات متزعزعة، والمجتمع المدني مفكك، والتقاليد عاجزة، في ظرف لم تكتمل فيه الحداثة، فإن القدرة الإبداعية لتدبير الأمور في كينشاسا، التي تدل على روح الابتكار التي يتحلى بها الأفراد والجماعات، لا تزال مبهرة.

 

سيلفي أييمبام

باحثة كونغولية ملحقة بمعهد العوالم الأفريقية في إكس ـ أن ـ بروفانس (فرنسا)، تخصص سيلفي أييمبام أعمالها أساساً في مجال الاقتصاد الموازي في المدن الأفريقية. من مؤلفاتها الاقتصاد القائم على تدبير الأمور في كينشاسا. الأنشطة غير الرسمية، والتجارة والشبكات الاجتماعية (2014).