<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 08:44:18 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
زاوية كبرى

وارسو المتمرّدة

cou_02_19_varsovie_web.jpg

مسيرة في شهر نوفمبر 2018 في المدينة العتيقة بوارسو، للاحتفال بمرور 100 سنة على حصول النساء على حق التصويت في بولندا.

ردا على تصاعد النزعة المحافظة، يبرهن حراك المجتمع المدني التقدّمي في وارسو على قدرته على الاحتجاج والدفاع عن القيم الديمقراطية. في تلك العاصمة «المتمرّدة» التي طالما عانت من الاحتلال، والإهانة، والتدمير، والتي صمدت في مراحل شتى من تاريخها، تتواصل عملية إعادة البناء، في بحث مستمر للاستكمال.

بقلم يوانا لاسير

وارسو ليست ما يُسمّى عادة بالمدينة الجميلة. هي لا تعرض بهاءها لمن يزورها على عجل، كما هو الشأن بالنسبة لكراكوف، عاصمة بولندا السابقة. وارسو، المدينة ذات المائة فارق من اللون الرمادي، جلبت الأجيال الشابة بعد سقوط النظام الشيوعي سنة 1989.  فتهافت عليها الشباب واحتلّوا المصانع المهجورة وحوّلوها إلى فضاءات للإبداع الفني. كما دافعوا عن النمط المعماري للعهد الشيوعي أمام الضغط الذي سلطه الباعثون العقاريون الجدد. وعلى سبيل المثال، لا زال قصر الثقافة والعلم، الذي تبرع به الرفيق ستالين والذي اكتمل تشييده سنة 1955، قائما وسط المدينة إلى يومنا هذا، رغم وجود العديد من المعارضين. كانت تلك البناية الشاهقة التي لا تضاهي عظمتها إلا الكراهية التي يكنها لها سكان وارسو، والتي تفوق مساحتها 800.000 متر مكعب، فضاء ثقافيا مُتعدّد الاختصاصات يضمّ متاحف، وقاعات مؤتمرات، وورشات، ومسارح وقاعات سينما.

خلال الثلاثين سنة الأخيرة، انتشرت هنا وهناك في وارسو ما بعد الشيوعية، أماكن جديدة للقاء بأعداد لا تُحصى– أروقة، نوادي، حانات – تجلب بشكل متزايد الطلبة، وإطارات الشركات الدولية، والفنانين والمغامرين الوافدين من كل أرجاء العالم.

وما عليك إلا أن تطوف المدينة كي يغمرك الشعور بالطاقة التي تحركها، وأن تنقاد في زواياها ذات الطابع غير المألوف حتى تلاقي، صدفة، في مكان ما، مجموعة من المتظاهرين، وأخرى من المعتصمين، وربما يعترضك مدّ بشري هائل من المحتجين، حاملين  اللافتات والمعلقات.

لقد أصبحت المسيرات الصامتة والاستعراضات الصاخبة مشهدا متواترا في وارسو. تختلط الورود البيضاء باللباس أسود، وبالشموع والمفرقعات... تحت أمواج من الأعلام البيضاء والحمراء. ولكن، بينما يرفع البعض أيضا العلم الأزرق الأوروبي المُرصّع بالنجوم، يهتف آخرون بالأسود أو بالأخضر الذين يمثلان الوطنيين القوميين وحنينهم إلى «بولندا العظمى من البحر إلى البحر». وبينما يُنادي البعض بشعار «حتى لا نترك الديمقراطية تموت في صمت»، يطالب آخرون بـ«بولندا نقيّة» و«بولندا بيضاء».

ذلك هو التناقض الوطني الذي أخذ في السنوات الأخيرة منعطفا في اتجاه قطيعة حقيقية بين بولنداتين اثنتين تتحدّى أو تتجاهل إحداهما الأخرى. وتتجلّى هذه القطيعة على الساحة العمومية، بالمعنى الحقيقي وبالمعنى المجازي على حد السواء.

مدينة العصيان

تتبلور المواجهة في أغلب الأحيان أمام القصر الرئاسي الذي مثل، لحد شهر أبريل 2018،  نقطة وصول الموكب الديني الذي كان ينطلق في اليوم العاشر من كل شهر من المدينة العتيقة ـ محفوفا بالصلوات، والأناشيد، والخطب ـ  لتخليد ذكرى ضحايا كارثة سمولنسك التي جدّت يوم 10 أبريل 2010. في ذلك اليوم، ذهبت حوالي مائة شخصية مرموقة من بينها الرئيس ليخ كاتشينسكي، ضحية حادث طائرة. ومنذ ذلك الحين، تكررت مراسم تخليد ذكرى الضحايا، بعد أن تم رفعها إلى مستوى حدث وطني، 96 كرة. وكان الموكب، في كل مرة، يكتسح وسط مدينة وارسو التاريخي، ويجلب حشودا من المواطنين المحتجين على ما يعتبرونه استيلاء تسلّطيا ودينيّا على الفضاء العمومي.

تجنّدت المعارضة المدنية ضد الانحراف القومي منذ 2015 ملتفة حول لجنة الدفاع عن الديمقراطية. وتذكيرا بيوم 13 ديسمبر 1981، ذلك التاريخ المشؤوم الذي أعلن فيه ياروزلسكي حالة الحرب في بولندا، دأب عشرات الآلاف من الأشخاص على التظاهر في وارسو كل سنة. وفي سنة 2016، انتظمت أكبر مظاهرات احتجاجية عرفتها البلاد منذ الانتخابات الحرة الأولى عام 1989، عبّر خلالها سكان وارسو، وأيضا مواطنون وافدون من مدن أخرى، عن رفضهم لانتهاك الدستور، والمؤسسات وحقوق المواطنين وخاصّة منهم النساء.

و تحتل النساء الصفوف الأولى في كل المسيرات المدنية، كرمز واقف في صدارة  هذه الحركة المواطنية، وكعنصر موحد لجزء كبير من المجتمع. وقد تظاهرت النساء بأعداد كبيرة، سنة 2016، احتجاجا على مشروع قانون يمنع تماما وضع حد للحمل بصفة طوعيّة. وكان ذلك المشروع يرمي إلى تشديد القانون ساري المفعول آنذاك الذي لا يسمح بوضح حد للحمل إلا في حالات وجود تشويه خطير عند الجنين، أو خطر على صحّة الأم، أو اغتصاب أو زنا بالمحرمات. ونجحت المتظاهرات، هذه المرّة، في تحقيق مسعاهن. إلا أنه، وفي 11 نوفمبر 2018، وبينما كنّ يجلسن على جسر بونياتوفسكي لسدّ الطريق أمام القوميين، تمّ إجلاؤهنّ بالقوّة، ثم دعوتهنّ للمثول أمام العدالة بتهمة  منع حرّية التظاهر.

وفي 11 نوفمبر من كل سنة، خلال مسيرة الاستقلال، يتجدد نفس المشهد: عدد ضئيل من النساء يرفعن لافتات «نساء ضد الفاشيّة»، يتعرضن لسوء المعاملة العنيفة من طرف عشرات من الرجال مرتدين ثيابا أسود ورافعين شعارات عنصرية معادية للأجانب وللسامية، تتخللها عبارات بذيئة تتّسم بالتمييز الجنسي.

نفس الازدحام أمام المسارح. فبعد كل عرض لمسرحية مثيرة للجدل لأنها تُعارض القواعد المُقدّسة «للانتماء إلى بولندا»، يستعدّ مسرح باوزكني من جديد لمواجهة أحداث شغب تُنظّمها فصائل صغيرة من أقصى اليمين. هذا المسرح الذي كان أول مسرح يفتح أبوابه بعد الحرب العالمية الثانية، يمثل إلى جانب المسرح الجديد كريزتوف فارليكوفزكي وبعض الفضاءات المسرحية الأخرى المشهورة في البلاد، رمزا للنضال من أجل الحرية الفنية التي تزعج السلطات الاستبدادية.

هل هذا من باب الصدفة؟ لقد انطلقت الثورة الطلابية لسنة 1968 في بولندا ـ وتمثل تلك الثورة إحدى محطات النضال من أجل التحرّر من الاضطهاد السوفياتي ـ إثر سحب أثر خالد من قائمة عروض المسرح الوطني بوارسو،«الأجداد» للمؤلف آدم ميكيوفيتش.

هكذا تسير الحياة  بين الهزائم واسترجاع المواقع، في هذه المدينة المدهشة التي تستمد حماسها وطاقتها من مخزونها البشري.

مدينة لا تُقهر

هذا النفس، نفس التمرّد والحريّة، ليس بالجديد على وارسو. هل هو مستلهم من نهرها العصي؟ نهر فيستولا، بواديه الواسع المنحدر الذي يمنع ضفّته اليمنى من الاقتراب من ضفّته اليُسرى، يبقى مُتهوّرا ومُتوحّشا. وهو الذي يُضفي على المدينة طابعا خاصّا بما يُحيط به من رمال وأدغال.

حافظت وارسو طويلا على طابعها الريفي. وبدأت تتطور منذ 1915، تحت حكم الألمانيين الذين استرجعوا المدينة من روسيا أثناء الحرب العالمية الأولى. ورغم ما عانته من استغلال اقتصادي فاحش من قبل المستعمر، كانت المدينة مفعمة بعزيمة قوية وأمل كبير، فتم تنظيم انتخابات بلدية، وفُتحت الجامعة ومدرسة بوليتكنيك، وبدأت المدينة تتأهب لتقمص دورها كعاصمة لدولة مستقلة، وقد نالت تلك المرتبة إبان انتهاء الحرب في عام 1918.

طيلة العشرين سنة التي تلت الاستقلال، عمت ورشات البناء كافة أرجاء وارسو. كان ذلك أثناء ولاية الماريشال بلسودسكي الذي كان محبوبا بقدر ما كان محل جدل. وفي حدود 1939، أصبحت وارسو شبيهة بعواصم أوروبية أخرى: لها وسط مدينة أنيق ومناطق عديدة يقطنها العمال الذين يُمثّلون نصف سُكّانها. كما يُوجد بها حيّ يهوديّ كبير يتّقد حيويّة يغطي ثلث مساحتها ويمتدّ من وسط المدينة إلى شمالها.

عندها، أخذت قنابل الاجتياح الهتلري تتساقط على المدينة، لحين القضاء عليها في أكتوبر 1944. كان هتلر عازما على جعلها مثالا للإبادة التامّة، إثر عصيان جيش المقاومة البولونية في شهر أغسطس 1944.  فدُمّرت الضفة اليمينية بشكل شبه كامل، وتمّ ترحيل السكان الذين بقوا على قيد الحياة. ولم تعد وارسو سوى حقل شاسع لآثار الدمار، وبدأ الشك يحوم حول إمكانية إعادة الإعمار، نظرا لشدّة هول المهمّة.

إلا أنه، اعتبارا من يناير 1945، بدأت تتوافد على ضفّتي فيستولا أفواجا من العائدين الذين فقدوا مساكنهم. فأخذوا في نبش الأنقاض المغمورة بالجليد. وهكذا، شرعوا من تلقاء أنفسهم، في عملية إعادة البناء التي تحوّلت في ما بعد إلى إنجاز استثنائي لأمة بأسرها. ومن حسن الحظ أن مكاتب ومعاهد الهندسة المعمارية قد أنجزوا خلسة، خلال الاحتلال النازي، جردا للعمارات التاريخية. لم يتلف كل شيء. ساحة السوق، ومنازل المدينة، ودائرة الأسوار، والقصر الملكي وعدة بنايات دينية هامّة «للمدينة التي لا تُقهر» ـ كما كانت تسمّى وارسو آنذاك ـ كلها بعثت فيها الحياة من جديد في هبّة وطنية توحيدية، شجعتها الدعاية الشيوعية. ممّا جعلها تستحق التسجيل على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. وقد حافظ أرشيف مكتب إعادة بناء وارسو على أثر تلك الحقبة المشهودة، وتمّ إدراجه في سجل ذاكرة العالم في سنة 2011.

مدينة كالرق الممسوح

حقبة أخرى من التاريخ الخالد لمدينة وارسو: الغيتو. من لم يسمع بانتفاضة غيتو وارسو، في ربيع 1943 وصموده الحازم-اليائس! ولكن من يعرف بالتحديد موقع هذا المكان الضخم المقفل، الذي لا يضاهي حجمه أي مكان آخر من نوعه في أوروبا، في ظل الاحتلال النازي؟ تم تطويقه في سنة 1940، وتمّت إزالته من الخريطة سنة 1943. لحد أن سكان وارسو ليس لديهم فكرة واضحة عنه، بسبب تحريم الكلام عنه خلال عشريات النظام الشيوعي. عند تحرير المدينة، لم يبق سوى بعض مخلّفات الجدران التي كانت تطوقه على طول ثمانية عشر كلم وعلى ارتفاع عدّة أمتار. كان يقال أنه يُوجد في... مكان ما، شمال قصر الثقافة...

تم تشييد وارسو جديدة على أنقاض المدينة اليهودية، التي كادت تنقرض ذكراها مع وفاة ما بين أربع مائة و خمس مائة ألف من سكانها، لولا بقاء أحدهم على قيد الحياة. إسمه هارس واسر. كان مساعدا للمؤرخ إيمانويل ريجلبلوم الذي استبسل، صحبة ستين من أصدقائه، في جمع أرشيف الغيتو حيث كانوا يعيشون خلال الحرب العالمية الثانية. وخلال الفترة ما بين 1946 و1950، تمّ استخراج ما لا يقل عن خمسة وعشرين ألف صفحة، مُبوّبة بعناية في صناديق حديدية، من تحت الأنقاض. وأُدرجت هذه الوثائق الفريدة، التي تمّ جمعها في السرّية المطلقة، في سجل ذاكرة العالم لليونسكو، مباشرة بعد سقوط النظام الشيوعي، سنة 1989.

لقد شيد إيمانويل ريجلبلوم وفريقه جسرا بين العدم والمستقبل، وتحدوا كل الممنوعات حتى يتركوا لنا شهادات حول التنظيمات السرية، وقائمات المُبعدين، وحوليات الأحداث، وآثارا أدبية، وأعمالا فنّية، ومذكرات شخصية، ورسائل خاصّة... كشفت عن أول توصيف دقيق لمعسكرات الإبادة في شلمنو وتريبلينكا. بفضلهم، تمكّن فريق من الباحثين والكُتّاب المعاصرين من إعادة تشكيل الحي المفقود بأدق تفاصيله، على الورق على الأقل.

وارسو بمثابة الرق الممسوح، تكتب تاريخها على صفحات الماضي، دون محوها تماما. هي فسيفساء شاسعة تتجدّد باستمرار في الزمان والمكان، تنبض بتدفّق الطاقات البشرية والتيارات التي تَعبرها من وراء الحجر والاسمنت. لتبني وتُعيد بناء هويّتها القائمة على ذاكرة متمرّدة وعلى نسيان نافع.

 

اطلع كذلك على مقال 

وارسو تبعث من جديد، رسالة اليونسكو، مارس 1961

 

يوانا لاسير

مهندسة معمارية خرّيجة مدرسة بوليتكنيك بوارسو وجامعة مارن لا فالي (فرنسا)، يوانا لاسير، ناشطة في العمل المدني في بولندا وفي فرنسا، بالتوازي مع مشاريعها المهنية في الهندسة المعمارية وفي تخطيط المدن والاتصال.