<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 10:23:13 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
زاوية كبرى

الحريات الفردية في الفكر الهندوسي

cou_04_18_puntambekar_web_01.jpg

صورة من مجموعة تكريما للهند للمصور اليوناني يانيس بابانيكوس

في نقده لتركيز الغربيين على العقل وعلى العلوم عند  بلورة المبدأ الأوروبي لحقوق الإنسان، يرى الأستاذ الجامعي الهندي س. ف. بونتامبيكر المختص في العلوم السياسية، أننا «سوف نضطر لا محالة إلى التخلّي عن بعض المعتقدات الوهمية المُتعلّقة بالعلم وبالعقل، والتي بحكم صفتها المادية المحدودة، تجعل الإنسان شديد التعلّق بهذا العالم، وإلى اقتراح  قيم وأهداف روحانية تسمو بالإنسان». في ما يلي مقتطفات من رده على تحقيق اليونسكو حول  الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان الذي أرسله في شهر مايو 1947، تحت عنوان «المفهوم الهندوسي لحقوق الإنسان».

 

بقلم شريكريشنا فانكاتاش بونتامبيكر

الكائن البشري هو الموضوع الأساسي الذي تتناوله الدراسات حول الإنسانية. في جوهر الإنسان بعد يتجاوز ما يظهره ضميره وسلوكه المعتادين في نظام أو في وسط مُعيّن، بعدا يؤثر في بلورة المثل الأعلى الذي يصبو إليه ومفهومه لقيم الحياة. كما أن في الإنسان نزعة روحانية أكثر صفاء، تجعله لا يرضى بالأهداف المادّية البحتة. إن الوضع العادي للإنسان لا يعبر عن جوهره. فالإنسان يحمل في داخله بعدا أعمق، دعنا نسميه النفس أو الروح. وكل ذات تأوي نورا أو إلهاما لا تقدر أية قوة على إطفائه، يجعله خيّرا ومُتسامحا، وفيه يكمن البعد الإنساني الحقيقي. علينا نحن أن نكتشفه، وأن نحميه، وأن نعمل على أن يكون استعماله في خير كل فرد وفي خير الإنسانية. من طبيعة الإنسان البحث عن الحقيقة والخير والجمال في الحياة، وإعطاء كل منها حق قدره والسعي إليها باستمرار.

ويجدر أيضا التذكير بأن هناك عنصر غير متوقع في الإرادة الإنسانية وتعقيد لا متناهي في الطبيعة البشرية. ولا يُوجد أي نظام ولا أي اختصاص ولا أي قانون من شأنه أن يرضي الإحتياجات العميقة والافتراضية لشخصية قوية، سواء كانت تلك الاحتياجات دينية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو فكرية. فكثيرا ما يتمتع الأفراد بطاقة كامنة وقدرة خلاقة خارجة عن نطاق الصيغ والعقائد القديمة. ليس هناك أي اختصاص ثابت يسمح بالتنمية الكاملة للقدرات البشرية في المجالات النفسية، والأخلاقية، والروحية. كما لا يوجد أي نظام قادر على تلبية المتطلبات المتزايدة لشخصية نشيطة. ويبقى في أي نظام مهما كان، جانب غير متوقع ومنقوص. لذلك نريد منح الحرية للإنسان: ونعني في هذه الحالة الحريات الإنسانية.

الحرية عامل لتنمية الشخصية

تبرز الحياة الإنسانية باستمرار قيما ومثلا جديدة. ولا يُوجد أي نظام ولا أية صيغة جاهزة قادرة على الاستجابة لاحتياجات كبار المُفكّرين وتطلعاتهم، ولا احتياجات كافة الشعوب في كل الأزمنة. إن الحرية ضرورية لأن السلطة ليست خلّاقة. فالحرية هي التي تخلق ظروف الازدهار الشامل للشخصية وليس التطابق  ولا النمطية ولا فهم كل مظاهر الحياة. في الوقت الراهن، لم يترك تمركز السلطة، والبيروقراطية، ودكتاتورية الأحزاب، بما تولده من نمطية وتعقيد، إلا مجالا ضيقا للفكر والتطور المستقل، والمبادرة، والاختيار الحر. [...]

هل بإمكاننا أن نُصغي إلى نداء الحرية الوطنية والحرية الإنسانية، في حين أن سِماتنا الصلابة والعناد والتعصّب والإنغلاق على مفاهيمنا السياسية، والدينية، والثقافية والاقتصادية؟ في انعدام قدرته على فرض قواعده وأساليبه على كافة الدول وكافة القارّات، لا زال البعض منا يُغذّي تجاه غيره من البشر مشاعر التعالي والكراهية ورغبات الهيمنة والإكراه.

لنكن، قبل كل شيء، بشرا. وبعد ذلك لنحدد المحتوى والقيمة الخصوصية للحريات الإنسانية والعلاقات القائمة بينها. من واجبنا احترام الإنسانية والشخصية، والقبول بالفوارق بيننا وبمختلف أنماط السلوك الاجتماعي، الداخلي والخارجي، الغريبة عنّا. علينا أن نتعاضد حتى نتعاون أمام المصائب والمشاريع الكبرى.

إن الحديث في الهند عن حقوق الإنسان هو طبعا ضروري ومرغوب فيه، لكنه مستحيل في ظل الوضع الاجتماعي الثقافي، والسياسي الديني الحالي. لقد اندثرت الذات الإنسانية عبر العالم: لم يبق إلا أفراد يخضعون لأحكام مسبقة إما دينية وعِرقية، أو طائفية أو جماعية. لقد فقد المُفكّرون كما الجماهير  صوابهم بسبب الامتيازات العرقية، والتشيّع الديني والإقصاء الاجتماعي. باختصار، نحن نشن حربا صامتة لإبادة المجموعات التي تُعارضنا. كل الطبقات الشعبية وكل التجمعات عندنا لا تحلم إلا بالسطو والاستعباد، ولا تسعى أبدا إلى التعاضد والتمدّن. فالحرب متواصلة دون هوادة بين الفرق والتجمعات، بين القادة ورعاياهم، داخل الدولة والمجتمع. لقد اختفت مفاهيم الإنسانية والتسامح، وكل احساس بالتواضع والاحترام، لتحل محلها الطائفية والتعصب والإقصاء.

في يومنا هذا، وكأن العالم أصابه مسّ من الجنون. أصبح يتسارع نحو الدمار والاستبداد، ويسعى إلى الاستيلاء والسيطرة على كل شيء، وإلى النهب والسلب. إن البغض الهائل المُتراكم إزاء الحياة وضد ما أنجزه الإنسان لم يترك مجالا، في السياسة العالمية المعاصرة، إلى المشاعر الإنسانية وحب الغير. ولكن، هل سنتخلّى عن أن نكون بشرا قبل كل شيء وإلى الأبد؟ ما نريده هو التحرّر من البؤس والحرب، ومن الخوف والحرمان. نريد التحرّر من نظام يسمح للدولة والمجموعة والكنيسة غرس جُذور مترامية الأطراف، لتفرض على الفرد نمطا للحياة مُلزما ومُقنّنا. نحن نطمح إلى حرية الفكر والتعبير، وحرية التحرّك والتنظّم، ونطمح إلى التعلّم والتقدم الفكري والأخلاقي. وكل مخطط لحياة مُحدّدة ومُقنّنة يجب أن يترك لنا حق المقاومة غير العنيفة والحق في الاستقلالية، حتى يتاح لكل فرد أن يعيش طبقا لمفهومه الخاص للخير.

البحث عن قيم روحية تسمو بالإنسان

لذلك، سوف نضطر لا محالة إلى التخلّي عن بعض المعتقدات الوهمية المُتعلّقة بالعلم وبالعقل، والتي بحكم صفتها المادية المحدودة، تجعل الإنسان شديد التعلّق بهذا العالم، وإلى اقتراح  قيم وأهداف روحانية تسمو بالإنسان. بعد ذلك، واعتمادا على هذه المبادئ، علينا أن نُنظّم كل أوجه حياتنا الاجتماعية. نحن بحاجة لا فقط إلى توفير الظروف المادية لحياة سعيدة، بل وأيضا إلى القيم الروحية لحياة مستقيمة. وما نلاحظه اليوم هو غياب حرية الإنسان أمام مقتضيات التكنوقراطية، والبيروقراطية السياسية والخصوصية الدينية.

لقد اجتهد كبار المُفكّرين ، مثل مانو وبوذا، لوضع تعريف للضمانات الضرورية للإنسان والفضائل الخاصة به، وقاموا بتدوين ـ إن صح التعبير ـ  الحريات والفضائل الأساسية العشرة الضامنة لحياة مستقيمة. هذه الحريات والفضائل ليست أساسية فحسب، بل هي تذهب إلى ما أبعد مقارنة بكل المبادئ التي اقترحها المفكرون العصريون. وقد وضع مانو وبوذا تعريفا للحريات الخمس أو الضمانات الاجتماعية، وللخِصال الخمس أو الفضائل الفردية.

الضمانات الاجتماعية الخمس هي: أولا الضمان ضد العنف (أهيسما). ثانيا، الضمان ضد الاحتياج (أستايا). ثالثا، الضمان ضد الاستغلال (أباريغراها). رابعا، الضمان ضد العنف والعار (أفيابهيشارا). وخامسا ، الضمان ضد الموت المُبكّر والمرض (أمريتاتفا وأروغيا).

أما الخصال أو الفضائل الفردية فهي: أولا، غياب التعصّب (أكدروذا). ثانيا، التعاطف ونكران الذات (بهوتادايا، أدروها). ثالثا، المعرفة (جنانا، فيديا). رابعا، حرية الفكر والضمير (ساتيا، سونرتا). وخامسا، الصمود إزاء الخوف، وعدم الرضا أو اليأس (برافرتي، أبهايا، ذرتي).

من أجل فهم أشمل لمعنى الحرية

وتقتضي الحريات الإنسانية، في المقابل، فضائل أو قواعد للحياة. إن الاقتصار على التفكير في الحريات، دون الاهتمام بالفضائل المرتبطة بها، قد يُؤدّي إلى اختلال توازن الحياة وإلى ركود الشخصية، إن لم نقل إلى تقهقرها، وكذلك إلى الفوضى والنزاعات الاجتماعية. ولا بد من استيعاب جيد لهذه الظاهرة المزدوجة للحياة الإنسانية، التي تشمل الحريات والفضائل أو القواعد، والضمانات والخصال الشخصية، وأخذ هذين الجانبين في الاعتبار في كل مشروع يسعى إلى تحقيق ما فيه خير للإنسان، وللمجتمع وللإنسانية. إن الحقوق وحدها  ـ الحق في الحياة، والحق في الحرية وفي الملكية أو في البحث عن السعادة ـ ليست كافية، تماما مثل ضمان الحرية، والمساواة والإخاء. نحن في حاجة إلى تعريف دقيق للحريات والفضائل، وإلى إعطائها مفهوما أشمل، إن أردنا تعزيز التقدم المادي والفكري والروحي للإنسان وللإنسانية.

إن الوقاية من مخاطر هذه الحرب المفتوحة والكامنة التي ترمي إلى إبادة بعضنا البعض وطنيا ودوليا، تملي علينا ابتكار وترويج صنف جديد من الأفراد أو المواطنين موهوبين بهذه الحريات والفضائل العشر التي تُمثّل القيم الأساسية للحياة والسلوك الإنساني. وإذا تعذر علينا تحقيق ذلك، فلن تفي حرياتنا بأهدافها ومهمتها في إنقاذ الإنسان وثقافته الفكرية والأخلاقية من الكارثة الوشيكة التي قد تهدد بتدمير الحضارة الإنسانية برمتها بواسطة الأسلحة الفتاكة التي أفرزتها العلوم، وبواسطة الروبوتات اللاإنسانية التي أنتجتها القوى المستبدة والغاشمة، بما لها من إيديولوجيات ومعتقدات.

أما نحن، في الهند، فلدينا الإرادة في التحرر من الهيمنة الأجنبية ومن الحرب الأهلية. الهيمنة الأجنبية مُؤذية. عانت منها بلادنا طيلة قرون. علينا التنديد بها، في شكلها الحديث كما في شكلها القديم. يجب أن تكون بلادنا مستقلّة وأن يحكمها نظام مُمثّل ومُوحّد، مسؤول ومركزي. ولا مجال لنا في الحياة إلا إذا حققنا ذلك.

أعرف أن الناس المبهورين والمُتحمّسين  لمُثل صارمة، ثقافية كانت أم دينية، لا يشعرون بنداء الحرية، سواء كانت على الصعيد الوطني أو إنساني. لكننا لن نسمح لأنفسنا بالتخلي عن أهداف وعن طموحات أسمى، بسببهم وبسبب أحكامهم المسبقة.

الصورة: جيانيس بابانيكوس

 

شريكريشنا فانكاتاش بونتامبيكر

أستاذ في التاريخ والعلوم السياسية، س. ف. بونتامبيكر (الهند) متخرج من جامعة أكسفورد. درس في جامعة فارانازي الهندوسية وترأس سابقا الجمعية الهندية للعلوم السياسية.