<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 20:05:57 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
زاوية كبرى

«الدماغ لا يُفكّر!»

cou_03-18_benasayag_01.jpg

عمل فني من مجموعة كواكب (2014) للفنان الإسباني خردي إيزارن

في عبارة «الذكاء الإصطناعي»،  كلمة «ذكاء» هي مجرّد تعبير مجازي. ذلك أن الذكاء الإصطناعي، رغم قدرته على الحساب التي تتجاوز قدرة الإنسان، ليس في استطاعته إعطاء مدلول للحسابات التي ينتجها. ويرى الفيلسوف والمحلل النفسي الأرجنتيني ميغال بن الصايغ أن اختصار التركيبة المعقدة للأحياء في مجرد رموز رقمية إنما هو من محض الافتراء، كما تبقى فكرة تعويض الإنسان بالآلة  من باب اللامعقول.

 

ميغال بن الصايغ يجيب عن أسئلة ريجيس ميران

 

ما الذي يُميّز الذكاء البشري عن الذكاء الإصطناعي؟

الذكاء الحي ليس آلة حساب، بل هو سيرورة يتَرابط فيها الوجدان والجسد والخطأ، وتفترض وجود الرغبة والوعي لدى الكائن البشري بتاريخه الذاتي على المدى الطويل. لا يمكن تصوّر  الذكاء البشري في عزلة عن بقية المسارات العقلانية والجسدية.

وخلافا للإنسان - أو للحيوان - الذي يُفكّر بواسطة دماغ متمَوقع في جسمه، وهذا الجسم هو بدوره مندرج في محيطه، فإنّ الآلة تُنتج حسابات وتوقّعات دون أن تكون قادرة على تفسير مدلولاتها. وفي الحقيقة، ليس هناك جدوى في التساؤل عن إمكانية تعويض الإنسان بالآلة. فالحيّ هو الذي يخلق المعنى، وليس الحساب. العديد من الباحثين مقتنعون بأن الفرق بين الذكاء الحيّ والذكاء الاصطناعي هو فرق كمّي، في حين أنه فرق نوعي.

 

يبدو أن حاسوبين من برنامج غوغل براين توصّلا للتخاطب بـ«لغة» من ابتكارهما وهي لغة لا يقدر الإنسان على فهمها. ما رأيك؟

بكل بساطة، هذا الكلام ليس له أي معنى. في الواقع، كلما تم تشغيل هاتين الآلتين، إلا وأعادت نفس التسلسل في تبادل المعلومات. ولا يُمكن البتّة اعتبار ذلك لغة، إذ ليس هناك تحاور بين الآلتين. هذا تعبير مجازي غير صائب، كما لو اعتبرنا أن القفل «يعرف» مفتاحه.

في نفس السياق، يقول البعض إنهم «أصدقاء» مع إنسان آلي. بل إن هناك تطبيقات للهاتف الذكي يُفترض أنها تتيح «التحاور» مع الآلة. لنُشاهد الشريط السينمائي«هار» (هي) للمخرج سبايك جونز (2013): بعد أن تم طرح سلسلة من الأسئلة على شخص قصد رسم خريطة دماغه، تقوم آلة بصياغة صوت وأجوبة تبعث إحساسا عاطفيا عند ذلك الشخص. ولكن، هل يمكن ربط علاقة عاطفية مع إنسان آلي؟ كلّا، لأن الحب والصداقة لا يقتصِران على جملة من الإرساليات العصبية في الدماغ.

الحب والصداقة يتجاوزان الفرد، بل ويتجَاوزان التفاعل بين شخصين. عندما أتكلّم، أشارك في شيء يجمعنا، ألا وهو اللغة. وهو كذلك بالنسبة للحب والصداقة والفكر: هي عمليّات رمزية يُشارك فيها البشر. لا أحد يُفكّر بذاته. الدماغ يُوفر طاقته للمشاركة في التفكير.

إلى الذين يعتقدون بأن الآلة قادرة على التفكير، أقول: من الغريب أن تكون الآلة قادرة على التفكير، بما أن الدماغ ذاته لا يُفكّر!

 

ما تعيبه على الذكاء الاصطناعي أساسا هو اختزال البعد الحي في مجرد رموز.

فعلا. البعض من المختصين في الذكاء الاصطناعي مُنبهرون بنجاحاتهم التقنية، مثلهم مثل الأطفال الصغار المنبهرين بألعاب التركيب، لدرجة أنهم فقدوا النظرة الشمولية. لقد سقطوا في فخّ الاختزال.

كتب عالم الرياضيات الأمريكي ومُنظّر السبرانية نوربرت فاينر، سنة 1950، في كتابه«ذي هيومن يوز أف هيومن بيينغز» (السبرانية والمجتمع)، أنه سيتسنّى لنا في يوم من الأيام «إرسال إنسان  عبر التلغراف». وبعد أربعة عقود، تم تطوير فكرة مايند أبلودنغ (تحميل العقل) - اعتمادا على نظرية ما بعد الإنسانية - على أساس نفس التوهّم بأنه يمكن اختزال العالم الواقعي بأسره  في وحدات إعلامية قابلة للنقل من آلة (هاردوار) إلى أخرى.

كما نجد نفس هذا الاعتقاد في إمكانية وضع نماذج للكائنات الحيّة في قالب وحدات إعلامية لدى عالم البيولوجيا الفرنسي بيار-هنري غويون - وقد نشرتُ كتابا حواريا معه يحمل عنوان «صناعة الحيّ؟» (2012). يرى غويون أن الحامض النووي هو ركيزة لرمز يمكن نقله إلى ركائز أخرى. ولكن، إذا اعتبرنا أن الكائن الحيّ قابل للوضع في نموذج متكوّن من وحدات إعلامية، فإننا نهمل أن مجموع الوحدات الإعلامية ليس هو الذي يكوّن الشيء الحيّ، ومن ثمّ نهمل الاهتمام بالبحث في ما هو غير قابل للوضع في قالب نماذج.

إن الأخذ بعين الاعتبار كلّ ما هو غير قابل للوضع في قالب نموذج لا يُحيل بالضرورة إلى فكرة الإله، ولا للظلامية، مهما اعتقد البعض. كما أن  مبادئ عدم إمكانية التنبّؤ أو عدم اليقين موجودة في كافة العلوم الصحيحة. لذلك فإن ميول أنصار نظرية ما بعد الإنسانية، إلى المعرفة التامّة، ينصهر في خطاب يقدس التكنولوجيا ويخلو تماما من المنطق. وإن لقيت هذه الفكرة نجاحا كبيرا فلأنّها قادرة على الاستجابة لتعطش الجيل المعاصر للميتافيزيقيا. إن أنصار فكرة ما بعد الإنسانية يتوقون إلى حياة خالية من الشك. لكن، سواء في حياتنا اليومية أو في البحوث، لابدّ أن نتحمّل الشكوك والمُتغيّرات...

 

حسب نظرية ما بعد الإنسانية، سوف يصبح الإنسان يوما قادرا على الخلود بفضل الذكاء الاصطناعي.

في خضمّ التقلبات التي نعيشها في عصر ما بعد الحداثة، حيث ينعدم التفكير في العلاقة بين الأشياء، وحيث تسود عقلية الاختزال والفردانية، اكتسبت وعود نظرية  ما بعد الإنسانية مكانة مغارة أفلاطون. يعتبر الفيلسوف اليوناني أن الحياة الحقيقية لا تكمن في العالم المادّي وإنما في الأفكار. وبعد أربعة وعشرين قرنا، يرى أنصار نظرية ما بعد الإنسانية أن الحياة الحقيقية ليست في الجسم وإنما في الخوارزميات. فالجسم، بالنسبة لهم، ليس سوى صورة ظاهرية، يجب أن نستخرج منه جملة من المعلومات المفيدة ونتخلّص من عيوبه الطبيعية. هذه طريقتهم في نيل الخلود.

لقد سنحت لي الفرصة، بمناسبة بعض الندوات العلمية، أن ألتقي بالعديد من أعضاء جامعة التفرّد (المنصهرة في نظرية ما بعد الإنسانية) حاملين قلادات تُفيد بأنه في حال وفاتهم، سوف يتم  تجميد رؤوسهم. أرى في ذلك ظهور شكل جديد من الرجعية، في حين أنهم يعتبرون أنني محافظ بيولوجي، لأنني أعارض فلسفة ما بعد من الإنسانية. ولكن، لمّا ينعتني خصومي بالرجعية، ها أنهم يلجأون لنفس أنواع المبررات التي يتذرع بها رجال السياسة عندما يدّعون التحديث والإصلاح، والحال أنهم يهدرون الحقوق الاجتماعية للبلاد وينعتون بالرجعية كل من أراد الحفاظ على هذه الحقوق!
 


روبوت (2013)، إبداع فني يشترك فيه راقصون من البشر والروبوتات، من تصميم الفرنسية-الاسبانية بلانكا لي، التي تلقِي من خلاله نظرة مليئة بالتساؤلات حول عالم تسكنه الآلات والبشر.

لقد أصبح تهجين الإنسان والآلة أمرا واقعا. وهو أيضا غاية في نظرية ما بعد الإنسانية.

ما زالت الطريق طويلة حتى نفهم تماما الحيّ والمهجّن، لأن عالم التقنية البيولوجية يجهل إلى يومنا هذا كل شيء، تقريبا، عن الحياة فهي لا تتلخّص فقط في المسارات الفيزيائية والكيميائية التي يمكن صياغتها في  نماذج. فالحيّ هو حاليا مهجن مع الآلة، وسوف يُصبح دون شك أكثر هجانة مع منتوجات التكنولوجيا الحديثة.

توجد العديد من الآلات التي نستخدمها والتي نُفوّض لها بعض المهامّ. ولكن هل كل هذه الآلات ضروريّة؟ ذلك هو السؤال المطروح بالأساس. اشتغلت على زراعة القوقعة السمعية وثقافة الصمّ: الملايين من فاقدي السمع يُطالبون بثقافة خاصّة بهم - وهي غير محترمة بالقدر الكافي – ويرفضون زراعة القوقعة لأنهم يُخيّرون التعبير بلغة الإشارة. هذا الابتكار، الذي قد يمحق ثقافة فاقدي السمع، هل يُمثّل تقدّما؟ تعسر الإجابة على هذا السؤال.

قبل كل شيء، لا بدّ أن نضمن احترام الحياة في عمليات التهجين. إلا أن ما نشاهده اليوم ليس بالتهجين بقدر ما هو استعمار الآلة للأحياء. ومن فرط الاستعانة بوسائل خارجية، أصبح العديد من الناس لا يتذكّرون شيئا وأصبحوا يُعانون من ضعف الذاكرة، دون أن يكون ذلك مُتأتّيا من أمراض مُتدنّية.

لنأخذ مثال الآلة التي تُحدّد الموقع الجغرافي. لقد قمنا بمتابعة تصرّفات سائقي سيارات الأجرة في باريس وفي لندن، بما في هاتين المدينتين من متاهات. ولاحظنا أن اللندنيين يعتمدون على أنفسهم في اختيار الاتجاهات، في حين أن الباريسيين يستندون دائما إلى تلك الآلة. وبعد ثلاث سنوات، أظهرت اختبارات نفسية أن النواة تحت القشرة الدماغية التي تُحدّد خريطة الزمان والمكان أُصيبت بالضمور عند الباريسيين (ولا شك أن هذا الضمور قد يرتد إذا تخلّى الشخص عن استعمال تلك الآلة). لقد أُصيبوا بنوع من عسر القراءة يمنعهم من تحديد موقعهم في الزمان والمكان. وهذا هو الاستعمار: المنطقة الدماغية أُصيبت بالضمور لأنه تم تفويض وظيفتها الأصلية دون تعويضها بأية وظيفة أخرى.

 

ما الذي يُقلقك أكثر؟

يقلقني النجاح المفرط لمنطق الابتكار. فكرة التقدّم لم تُحقق أهدافها وقد تمّ تعويضها بفكرة الابتكار التي تختلف عنها تماما: إذ ليس لها نقطة انطلاق ولا نقطة وصول، كما أنها ليست جيّدة ولا سيّئة. لذلك وجب التساؤل حولها بمنظور نقدي. إن معالجة النصوص بواسطة الحاسوب أحسن بكثير من آلة الرقن «أوليفتي» التي كنت أستعملها في السبعينات، لذا أرى في ذلك تقدّما. وعلى العكس، فإن كل هاتف ذكي يحتوي على عشرات التطبيقات، نادرا ما يتساءل الناس كم منها ضروري حقّا. فالحكمة تقتضي أن نأخذ حذرنا من الجاذبية التي تثيرها فينا الرغبة في التسلية أو نجاعة التكنولوجيات الحديثة.

من جانب آخر، في مجتمع فقد صوابه وأضاع قصصه المرجعية الكبرى، يبعث خطاب ما بعد الإنسانية على القلق: فهو يعامل البشر وكأنّهم صبيان ولا ينظر للوعود التكنولوجية بالبعد الكافي. في الغرب، تُحيل التقنية دائما إلى فكرة تجاوز الحدود. فمنذ القرن السابع عشر، لم يستبعد الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت، الذي كان يعتبر أن جسد الإنسان بمثابة الآلة، إمكانية وجود فكر خارج الجسم. أن يحلم الإنسان بالتحرر من جسمه ومن حدوده، بفضل العلم، فتلك رغبة بشرية. وتظن نظرية ما بعد الإنسانية أنه من الممكن تحقيق تلك الرغبة أخيرا.

لكن الحلم بإنسان يتعدى نطاق الجسد، كلي السلطة والنفوذ، لا حدود له، يكنّ عواقب شتى على المجتمع. ويبدو لي أنه يتوجّب تحليله في علاقة استشرافية مع صعود الأصولية الدينية المتقوقعة في قيم يُفترض أنها القيم الطبيعية للإنسان. وأعتَبر أن كلاهما ضرب من الأصولية اللاعقلانية، وأنهما قد شنا الحرب على بعضهما.

الصورة: خوردي إيزارن

 

ميغال بن الصايغ

فيلسوف ومحلل نفسي أرجنتيني. قاوم ميغال بن الصايغ سياسة بيرون وتمكّن من الهروب من الأرجنتين سنة  1978، بعد أن تم اعتقاله وتعذيبه، ليستقرّ بباريس في فرنسا. نُشر له مؤخّرا «دماغ مُضخم، إنسان منقوص» (2016)، و«تفرّد الحيّ» (2017).