<
 
 
 
 
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 20:08:18 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
الأحداث

الذكرى 70 لتأسيس رسالة اليونسكو: الصحيفة الوحيدة التي كان يقرأها نيلسون مانديلا في جزيرة روبن

cou_03-18_mandela_01.jpg

نيلسون مانديلا، رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي، و فيديريكو مايور، المدير العام لليونسكو (1987-1999)، في مقر اليونسكو، يوم 14 أكتوبر 1993.
© UNESCO

«نظام التفرقة العنصرية ليس، كما يعتقد البعض لحد الآن، مجهودا صادقا يهدف إلى تحقيق تكافؤ الفرص بين المجموعات العرقية، لكن في أطر مُنفصلة. إنه دون شك تمييز عنصري فرضه أشخاص ذوي البشرة البيضاء، لصالحهم حصريّا، وعلى حساب السكان السود أو الذين يختلف لونهم عن البيض». هذا ما قرأه في صفحات الرسالة السجين رقم 64/466، نيلسون مانديلا، لما كان معتقلا في جزيرة روبن، دون علم حرّاس الدولة البوليسية التي كانت قائمة في أفريقيا الجنوبية آنذاك.

 

بقلم أنار كسّام

 

في سنة 1964، حُكم على نيلسون مانديلا ورفاقه في الكفاح بالسجن المُؤبّد، وكانت إدارة السجن ساهرة على أن تكون سنوات اعتقالهم الأولى قاحلة على المستويين الفكري والروحي، مثلها مثل أرض جزيرة روبن الجدباء: كانت الصحف ممنوعة بما فيها الصحف المحلّية. وقد ذكر مانديلا في الكتاب الذي خصصه لسيرته الذاتية، والذي يحمل عنوان «طريق طويلة نحو الحرية»(1994): «كانت السلطات تُحاول أن تفرض علينا تعتيما كاملا، ولم تكن تُريد أن يبلغ إلى علمنا أي خبر من شأنه أن يرفع من معنويّاتنا، ولا أن نعلم بوجود أطراف في الخارج ما زالت تُفكّر فينا».

إلا أنه كان بإمكان السجناء أن يُتابعوا دراستهم الثانوية والجامعية، وأن يحصلوا بالتالي على الكتب التي يحتاجونها. فتسرّب في فترة ما، بين كتب الحسابيات والاقتصاد المطلوبة من طرف المُعتقلين، اشتراك في رسالة اليونسكو باللغة الإنجليزية، يتم إرساله من باريس.

من الواضح أن هذه المجلّة لا تمثل في نظر إدارة السجن التي لا تفقه في الغالب إلا اللغة الأفريقانية، أية خطورة بالنسبة لهذه الفصيلة من السجناء الذين كان يُسمح لهم، بعد قضاء يوم في الأشغال الشاقة في محجر من الكلس، بالاطّلاع في زنزانتهم على مثل تلك المحتويات «الخالية من الأهميّة».

وقد قص مانديلا بنفسه هذه الوقائع في سبتمبر 1996 في مكتبه الرئاسي بمبنى يونيون بلدنغس في بريتوريا، على فيديريكو مايور المدير العام لليونسكو آنذاك، خلال الزيارة الرسمية التي أداها لأفريقيا الجنوبية الجديدة في عهدها الديمقراطي.

وذكّر الرئيس بأنه كان يستمتع، هو ورفاقه، بقراءة الرسالة، تلك «النافذة المفتوحة» على العديد من المواضيع الجديدة، مثل التنوّع الثقافي، وتراث الإنسانية المشترك، وتاريخ أفريقيا، والتعليم في سبيل التنمية... لم يكن يُوجد أيّ من هذه المواضيع في قاموس التفرقة العنصرية، ولا في الأراضي القاحلة لجزيرة روبن. وأصرّ مانديلا على إعلام المدير العام لليونسكو بأن مطالعة الرسالة كانت الصلة التي تربطهم بالعالم الخارجي.

لقد حظيت بمرافقة فيديريكو مايور في تلك الزيارة، وعندما استمعت إلى تصريحات الرئيس، تساءلت عن مغزاها وعن مدى أهمّيتها. لقد لعبت الرسالة دور الحمام الزاجل بين باريس وهذه الجزيرة الصغيرة النائية الواقعة وسط جنوب المحيط الأطلسي، لتحمل لمانديلا ورفاقه أخبارا وأفكارا من القارات الخمس في غفلة حرّاس الدولة البوليسية التي كانت قائمة في أفريقيا الجنوبية زمن التفرقة العنصرية. ممّا يعني أن المعرفة والأفكار قادرة على التحليق، عند الحاجة!

 

التفرقة العنصرية

جزيرة روبن كانت عبارة عن ألكاتراز أفريقيا الجنوبية، الجزيرة-السجن حيث يقبع سجناء الحق العام السود المحكوم عليهم بالمُؤبّد، دون أي أمل في إطلاق سراحهم. وعندما اشتدّت المقاومة ضد التفرقة العنصرية وانتشرت، خلال السنوات 1960 و1970، أرسلت الحكومة العنصرية الجنوب أفريقية المعارضين السياسيين الأكثر تأثيرا إلى هناك، لقضاء بقية حياتهم. في الواقع، كانت سجنا وسط السجن، لأن السجن الرئيسي كان أفريقيا الجنوبية ذاتها، حيث انغلقت أقلية المُستعمرين البيض على شعورها الجنوني بالتفوّق العرقي على الشعب الأصلي. وكانت الحياة بكل جوانبها، الخاصة منها والعامة، تخضع لقوانين عنصرية تمّ سنّها بهدف قمع سمعة الأغلبية السوداء وتشويهها، لصالح الأقلية البيضاء صاحبة كل الامتيازات.

وكانت الطبقة الحاكمة تدّعي أنها تُحافظ على «القيم الأوروبية» وتدعمها، بعنوان مهمتها المزعومة «للنهوض الحضاري» بأفريقيا. وهو موقف متناقض، بما أنها في الحقيقة، تتجاهل تلك القيم التي ترتكز على مبادئ الحرية، والعدالة، والديمقراطية والأخوة، وهي القيم التي ناضل الأوروبيون من أجلها طيلة قرون.

وانطلاقا من هذا الصراع بالتحديد – أي من الحرب المُدمّرة ضد العنصرية النازية التي كادت أن تجرّ العالم إلى الهاوية، خلال الحرب العالمية الثانية – تم إنشاء اليونسكو ونظام الأمم المتحدة. لقد أدركت أمم العالم سنة 1945، أنه «لا مجال أبدا» للقبول بمثل هذه المآسي مستقبلا. وقرّرت، في إطار اليونسكو، وبكل وضوح، أن «حصون السلام يجب أن تبنى في عقول البشر»، (كما جاء في الميثاق التأسيسي للمنظمة) بفضل تقاسم المعارف وتطويرها في جميع المجالات، ولا سيما في مجالات التربية والعلم والثقافة.

ولم يستوعب نظام أفريقيا الجنوبية هذا الدرس، بل اختار المضيّ في الاتجاه المعاكس، بتدعيم التفرقة، والإقصاء، والحرمان، والإهانة، والعنف. وكل من يعارض هذه الإيديولوجيا المُتخلّفة كان عقابه النفي المُؤبّد.

 

مقالات ضد التمييز العنصري في جزيرة روبن

أتخيّل ابتسامة الارتياح التي تعلو محيّا مانديلا ورفاقه في النضال وهم يقرؤون هذه الأسطر حول العنصرية، التي نُشرت سنة 1968 بقلم عالم الاجتماع البريطاني جون راكس: «إن نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا هو المثال الصارخ للعنصرية في عالمنا اليوم. نظام التفرقة العنصرية ليس، كما يعتقد البعض لحد الآن، مجهودا صادقا يهدف إلى تحقيق تكافؤ الفرص بين المجموعات العرقية، لكن في أطر مُنفصلة. إنه دون شك تمييز عنصري فرضه أشخاص ذوي البشرة البيضاء، لصالحهم حصريّا، وعلى حساب السكان السود أو الذين ليسوا من البيض».(العنصرية تحت القناع).

بعد مضي حوالي عشر سنوات، مثّلت مجزرة التلاميذ في سويتو سنة 1976 من قبل الشرطة المسلحة خلال المظاهرات منعرجا في تاريخ النضال ضد التمييز العنصري، وذلك بتعبئة جيل شاب من المعارضين الغاضبين والثائرين على فرض اللغة الأفريقانية كلغة تعليم في مدارس السود. وقد أظهرت تلك المجزرة لبقية العالم أن استراتيجية الحكومة العنصرية تكمن في اللجوء إلى القوة العنيفة لا غير، وحتى ضد تلاميذ غير مسلحين. فتم إقصاء أفريقيا الجنوبية من قبل المجتمع الدولي ونبذها من طرف كافة شعوب العالم، أو على الأقل من طرف الحكومات.

وفي نوفمبر من السنة الموالية، نشرت الرسالة عددا خاصّا حول العنصرية في جنوب أفريقيا يحمل عنوان «أفريقيا الجنوبية في صراع مع العنصرية»، يبدأ بهذه السطور: «من بين أشكال العبودية الحديثة، يُمثّل التمييز العنصري اليوم الشكل الأكثر دناءة. إن ما تقوم به اليونسكو بكل صبر ومثابرة وقوة، يُعاضد نضال السود في جنوب أفريقيا، فهم أظهروا، بفضل شجاعة انتفاضتهم، أنهم تجاوزوا الخوف واسترجعوا الأمل. وحتى تبقى المجموعة الدولية وفيّة لذاتها، عليها أن تتجنّد وأن تتحرّك بحزم حتّى لا تُخيّب هذا الأمل».

لا شك في أن قراءة ذلك العدد مُنعت في جزيرة روبن ولكن، في الأثناء، بلغ النضال الساحة الدولية، وبدأ بعض قادة بريتوريا يدركون أنهم سوف يحتاجون إلى مانديلا، عاجلا أو آجلا. وبمرّ السنين، ارتقي موقف مانديلا وقضيته، في حين واصل نظام التمييز العنصري عدوانه وعنفه إزاء السود من شعبه وإزاء الدول الأفريقية المجاورة.

انتهى اعتقال مانديلا في الجزيرة في أواخر سنة 1982، وتمّ نقله في البداية إلى سجن بولسمور قرب مدينة كايب، ثمّ إلى منزل تابع لسِجن فيكتور فيرستار، حيث وجد «رفاهة» نسبية. وأثناء تلك المرحلة من اعتقاله، التي تواصلت حتى سنة 1990، يقول مانديلا إنه كان يقضي ساعات في «التحدث مع العدو»، وهي طريقته في بدء الحوار والمحادثات مع أعضاء النظام الأكثر ذكاء والأقل تعصبا، لإقناعهم بأن عنف الدولة والمعاملة العسكرية لن يُهدّئا من التحرك المتفاقم في البلاد، وبأنه لا بد من ردّ سياسي على مطالب التغيير الواردة من كل الجهات، بما فيها المجتمع الدولي.

وأتى أخيرا اليوم الذي طال انتظاره، كان ذلك يوم 11 أكتوبر 1990، اليوم الذي اجتاز فيه مانديلا أبواب السجن ليَفرض نفسه، في بضعة أيام، كالسلطة المعنوية للبلاد – وفي ذلك نجاح باهر لهذا الرجل الذي عاش في المنفى طيلة ما يُناهز الثلاثين سنة، وكان يُمنع نشر اسمه أو صورته أو أقواله! وفي مايو 1994، وبعد أربع سنوات من المفاوضات المُضنية مع حكومة دي كلارك، تم انتخاب مانديلا على رأس دولة أفريقيا الجنوبية الجديدة، كأول رئيس لمجتمع ديمقراطي غير عنصري حيث سيتَعايش في سلام المُضطهِدون والمُظطَهَدون.

«عشرة آلاف يوم»

يمكن أن ننظر للسنوات السبع والعشرين التي قضاها مانديلا في الاعتقال بطريقتين: بأنها تمثل تضحية رهيبة بأحسن سنوات العمر، وثمنا بالغ القساوة على عائلته التي فُرض عليها الغياب والضياع – أي أن هذه السنوات هي بالتأكيد عقابا أشنع ممّا يُخيّل. ولكن بالإمكان أيضا النظر إلى «العشرة آلاف يوما» وراء القضبان، كما ينعتها مانديلا، بمنظور آخر: على أنها تمثل الفترة التي احتاجها لإقناع العنصريين بكسر سلاسلهم الإيديولوجية والثقافية، وبالقبول بأن الحرية والكرامة لكل سكان جنوب أفريقيا، بمختلف أجناسهم ومعتقداتهم، هي الخصال الأسمى لدَولة متحضّرة.

وعلى أعضاء «القبائل البيض» في أفريقيا أن يكونوا مُمتنّين لمانديلا لكل الوقت الذي قضاه في ترقّبهم، ولصُموده حتى آخر رمق، ليُنقذهم، سلميّا وبكل صبر، من سجن عقولهم ومن أوهام التفرقة والتفوّق، ليصل بهم إلى أرض مشتركة حيث لا يوجد مجال لطرد أي كان بسبب لون بشرته.

وفي سنة 1999، أصبحت جزيرة روبن أول موقع جنوب-أفريقي يُسجّل في قائمة التراث العالمي. وإذا وُضعت يوما قائمة عالمية لكل من ساهم في رقي الضمير المشترك للإنسانية، سيكون نيلسون مانديلا من بينهم.

 

تنشر الرسالة هذا المقال بمناسبة الذكرى المائة لميلاد نيلسون مانديلا، المولود في 18 يوليو 1918.

 

المزيد من المعلومات

بيان نيلسون مانديلا بمناسبة حصوله على جائزة فيليكس هوفوات-بوانيي 1991، المنشور في الرسالة عدد أبريل 1992.

مقال الطاهر بن جلون: «نيلسون مانديلا: رجل إلى الأبد»، نُشر في الرسالة في نوفمبر 1995.

مختارات من أعداد الرسالة المُخصّصة لموضوع العنصرية

وثائق أخرى من أرشيف اليونسكو:

خطاب نيلسون مانديلا، رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي، الحائز على جائزة فيليكس هوفوات-بواني سنة 1991، بالاشتراك مع فريديريك دي كلارك، في حفل تسليم الجائزة يوم 3 فبراير 1992 (فيديو بالإنجليزية)

13 اكتوبر 1993: نيلسون مانديلا في المجلس التنفيذي لليونسكو (فيديو بالإنجليزية)

اليونسكو: ذاكرة العالم: القضية الجزائية 1963/253 (مانديلا)

 

أنار كسّام

شغلت أنار كسّام (تنزانيا) وظيفة مديرة برنامج اليونسكو الخاص بجنوب أفريقيا من 1993 إلى 1996.