<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 16:11:48 Jun 11, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
زاوية كبرى

الجامعة وديمقراطية السّذّج

cou_01_18_humanity_01_bis.jpg

هل يرغب حقّا السياسيّون في تنمية الفكر النقدي لدى الناس؟
تغيرت علاقتنا مع العالم بصفة جذرية جرّاء التقدم العلمي والتكنولوجي. وفقدت العلوم الإنسانية مكانتها الريادية ليحل محلها مبدأ «القدرة الكلية للاقتصاد». وفي هذا السياق، أضحت الجامعة في مأزق: هل يجب تكوين تقنيين قادرين على مباشرة الإنتاج حال تخرجهم، أم جامعيين ذوي تكوين أشمل قادرين على التفكير في مستقبل المجتمعات؟ إن مواجهة التحدّيات الحالية لا يمكن أن تنحصر في الواقعية الاقتصادية.

جان ويناند

من بين الظواهر التي تتّسم بها بداية هذا القرن الحادي والعشرين، ومن أبرزها دون شك، انصهار الرموز المرجعية التي كانت تستدلّ بها مجتمعاتنا، والصعوبة التي يجدها الأفراد لتصوّر مستقبلهم بتفاؤل. و يزداد هذا الشعور حدّة بمشهد الحروب والهجرة الذي نتابع، مع الأسف، حلقاته يوميا

تُضاف إلى ذلك التساؤلات حول طبيعة الكائن الحي، واستمرار أنظمتنا البيئية، وطريقة سير حرياتنا الديمقراطية والفردية، ودور الدولة، والعلاقة بين الدول والشركات متعددة الجنسيات القادرة على تخصيص إمكانيات هائلة لجمع المعلومات والمعطيات، ونشرها وحفظها، ولكن أيضا لتحويلها واستغلالها.

إن انعزالية بعض الدول الغنيّة، وانتشار الشعبوية، والدعم المذهل للحركات المتزمّتة، تحث على الاعتقاد بأن أنصار الحلول السريعة والسهلة، حتى لا نقول المستسهلة، يستحوذون على السلطة تدريجيا.
وأمام هذه المخاوف التي تشغل العالم المعاصر، كان من الأرجح أن تضطلع العلوم الإنسانية بدور رائد، باعتبار أن مهامّها الأساسية تكمن تحديدا في توفير مفاتيح التوصّل لتفسير ما يجري في العالم الذي نعيش فيه. إلا أنها، وربما باستثناء علم الاجتماع، بقيت في موقع محتشم من الجدل القائم، وأصبحت تضمحلّ شيئا فشيئا من المناهج الجامعية.

إن المكانة المُخصصة للعلوم الإنسانية في تقهقر واضح في أغلب مناطق العالم، وبالخصوص في الدول المتقدّمة. وما نلاحظه هو، من جهة، تقلّص سعة امتدادها: فالمعاني التي تحملها لم تعد تغذّي مجالات التعليم التقني. ومن جهة أخرى، فإن الإمكانيات التي يتمّ توفيرها للعلوم الإنسانية، سواء كان ذلك للتدريس أو للبحث، في انخفاض مستمر.

ان الأسباب التي أدّت إلى هذه الوضعية مُتعددة إلى درجة أنه لا يمكن تقديم تفاصيلها في هذا المقال. وسأكتفي بالتعرض إلى دور السلطات السياسية.

ما هي أولويّات السياسيين؟

في عالم لم يعد فيه التشغيل التام قيمة ثابتة، أصبح التطابق الكامل بين التكوين والمهنة، الذي من شأنه أن يُؤدّي إلى موطن شغل، هاجسا حقيقيا. ومن ثمّ، يبدو من الأفضل تكوين حاملي الشهادات بما يؤهلهم للتشغيل مباشرة في عمل مُحدّد، بدلا من تكوين جامعيين في المجالات النظرية. وكمثال على ذلك، فقد أعلنت الحكومة اليابانية، في يونيو 2015، عن نيّتها في تخفيض هام لأقسام العلوم الاجتماعية والفلسفة والآداب، بل وفي إلغائها تماما من الجامعات التي تُشرف عليها الحكومة رسميّا. وقد صرّح آنذاك الوزير الأول الياباني بأنه من الأفضل توفير تعليم ذي صبغة عمليّة يساعد على استباق حاجيات المجتمع، بدلا من تعميق البحث الأكاديمي الذي يبقى نظريّا بالأساس.

لكن، هل يمكن للجامعة أن تقتصر على تكوين فنّيين من ذوي الاختصاصات الدقيقة الذين سيبقون جاهلين للمجالات الخارجة عن النطاق الضيّق لتخصصهم؟ وقد وصل بنا الأمر إلى حدّ التساؤل عمّا إذا كان السياسيون الذين تعود إليهم مسؤولية التوجيه، يرون ضرورة في تكوين أناس قادرين على التفكير بشكل شامل وبصفة نقدية. في بعض الدول، الجواب هو بكل وضوح بالنفي. وفي دول عديدة أخرى، لا أو لم يعد يُمثّل الأولوية، بل هو أحيانا موقف السلطات الجامعية نفسها التي أصبحت المردودية هاجسها.

في عالم يصعب فيه الاعتراف بالمُثل الفلسفية والأخلاقية، ما زالت الجامعات تحظى برصيد من الثقة لدى العموم. وحتى تحافظ على هذا الرصيد وتدعمه، يتحتّم عليها التصرّف بطريقة مثالية. والمختصّون في العلوم ليسوا دائما في منأى عن بعض الانتقادات التي تطال أحيانا نزاهتهم الفكرية. لذلك أصبح العلم محل شك في نظر عدد متزايد من الناس. إن تقديم ما يُسمّى بالحقائق البديلة - ألترناتيف فاكتس - (إجزام تُفنّده الوقائع) يُمثّل نموذجا مُهمّا. ولا فائدة، طبعا، من أن نُطوّل في تحليل المواقف المرتابة، المُتأتّية أحيانا من أعلى مستويات الدولة، حول حقيقة التغيّر المناخي، أو وضع نظرية تطوّر الأجناس في منافسة مع نظرية الخلق، وكأن الرأيين مُتساويان. وأمام هذا الوضع المتغيّر، يُمكن للجامعات أن تمثل مرجعا قويا في ما يتعلق بالحرية. وهو أمر مرتبط طبعا وإلى حد كبير، بإرادتها، لكن يبقى على الدول توفير الوسائل الكفيلة بتأمين الاستقلالية الحقيقية للجامعات.

دور العلوم الإنسانية

لو نظرنا إلى الجامعة في صيغتها المثالية، لكان للعلوم الإنسانية حيّزا مركزيا. ومع ذلك لا تؤخذ هذه العلوم بجدّية. وفي أغلب الأحيان، إذا تمّ الإبقاء على هذه المواد، فيكون لغاية توظيفها بصفة قسرية نوعا ما.  وكمثال على ذلك، فإن ضرورة المقاربة الفلسفية في علوم الأحياء مقبولة في ما يخص المسائل الأخلاقية، لكن يصعب إدراك الفائدة من دعم بحوث حول أعمال الفيلسوف كانت، أو حول الفلسفة القروسطية أو في علم الظواهر.

يعتبر العديد من المختصين في العلوم أن البحوث في الانسانيات لا تنتمي إلى العلوم بالمعنى التام. ويأتي عدم الفهم هذا بالخصوص من كون العلوم الصحيحة تفرض نموذجها المعرفي، أو على الأقل ممارساتها في البحث، على كافة العلوم الأخرى. وحيث أن العلوم الإنسانية تهتم بالأساس بالمعنى، ينجر عن ذلك حتما نوع من النسبية في النتائج.

ومن ناحية أخرى، فإنه لا يخطر ببال أحد أن ينتقد النخب التقنية التي تحظى باحترام الجميع لما تُساهم به في الإنتاج الصناعي، وفي الثروة الاقتصادية، وكذلك في ما ننعم به من جودة الحياة ومن رفاهة مادّية. على عكس النخب الفكرية التي تتمثّل مهمتها أيضا في الإزعاج من خلال طرحها لتساؤلات على المجتمع، ومَواقفها الناقدة تجاه السلطة، وأيضا قدرتها على فك رموز المعنى – دائما المعنى – الخفيّة، المحجوبة، المُتكتّم عنها، بينما يغمرنا التدفّق المتواصل للإعلام.

بيد أن العلوم الإنسانية التي تُفكّر بطريقة مختلفة عن الأنماط الثنائية، هي بالذات القادرة على توفير الأدوات الضرورية لفهم العالم المُعقّد الذي يُحيط بنا. وإن غابت، فسيُفسح المجال تدريجيا – وربما بشكل لا رجعة فيه – أمام «ديمقراطية السذّج»، وهي العبارة التي استعملها عالم الاجتماع الفرنسي جيرالد برونر.

A collection of antique globes at a shop in downtown Vienna, Austria, 2011. Part of German photographer Frank Herfort’s Interiors-Public series.
عمل فني من مجموعة "منازل مفتوحة للعموم" للمصوّر الألماني فرانك هارفورت

العلامات المُنذرة بالظلامية

أمام التحديات العملاقة التي يطرحها تقدّم العالم المعاصر، نظرا للتطوّر المُذهل للتقنيات التي تُعيد النظر بشكل عميق في أنمَاطنا الاجتماعية، لا يمكن أن ينحصر الجواب في البحث عن الرفاهية الاقتصادية، وإن كان من الضروري توفير مستوى أدنى  في الدول الأقلّ نموّا، بالأولوية. لكن الاقتصار على ذلك لا يعدو أن يكون بمثابة ورقة التوت التي تُغطّي حقائق أكثر تعقيدا وأكثر أهمّية. فالجواب الوحيد الملائم يكمن في فهم العالم الذي نعيش فيه وإدراك مقوماته. هذا الفهم يمرّ عبر الثقافة، الثقافة العميقة، وليس ثقافة الترفيه – أو على الأقل ليس ثقافة الترفيه فحسب -، ثقافة مُتغذّية بكثافتها التاريخية، ثقافة مُتعدّدة اللغات، ثقافة تُعنى بمنابعها، تتعمق فيها كي تستوعبها أكثر، وتفهم حاضرها وتستشرف مستقبلها. هي إذن ثقافة مستوعبة لكل المعطيات، ولا يُمكن أن تكون كذلك إلا بالإضافة التي تُقدّمها العلوم الإنسانية، علوم لا يمكن الاستغناء عنها.

إن الجهل بموقع الإنسان في الكون، بتاريخه وثقافته، وبكل الأشياء التي تستوجب معرفتها الدقيقة مناهجَ صارمة أحيانا، هذا الجهل، هذه الاستهانة، بل هذا الاحتقار تجاه المدافعين عن هذه الأشياء، هي علامات تُنذر باقتراب التسلّط والظلامية.

إن القادة الذين يسلكون طريقا ركيزتها الوحيدة هي الواقعية الاقتصادية، تكون  مبرراتهم موصومة في أحسن الحالات، بوصمة الجهل. وفي أسوأ الحالات، قد تدلّ على رغبتهم في استعباد الشعوب من خلال تجهيلها. ومن هذا المنطلق أتى حديثي عن الرهان الديمقراطي الأكبر الذي يتمثل في طريقة تصوّر وضع  العلوم الاجتماعية ودورها في مجتمعاتنا.

جان ويناند
جان ويناند (بلجيكا) أستاذ  بجامعة لياج منذ سنة 2007، وشغل خطة عميد كلية الفلسفة والآداب منذ 2010 لحين انتخابه سنة 2017 عضوا بالأكاديمية الملكية البلجيكية. وشارك في رئاسة اللجنة الدولية لبرنامج المؤتمر العالمي للانسانيات الذي انعقد في مدينة لياج في أغسطس 2017 بالاشتراك مع اليونسكو.