<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 14:17:05 Aug 29, 2019, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide

بناء السلام في عقول الرجال والنساء

زاوية كبرى

حقوق الفرد واحترام الثقافات

cou_04_18_herskovitz_web_01.jpg

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عمل للرسام الإيطالي أليساندرو غاتو.

كيف يمكن التوفيق بين الحقوق الفردية، مع احترام الحساسيات الثقافية للجماعات البشرية المختلفة؟ يرى عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ميلفيل ج. هيرسكوفيتس (1895 ـ 1963) أن هذه هي الصعوبة الرئيسية التي تعرقل صياغة إعلان عالمي لحقوق الإنسان. وقد تناول هيرسكوفيتس الموضوع في نصه الذي يحمل عنوان «بيان حول حقوق الإنسان» والذي أرسله عام 1947 ردا على تحقيق اليونسكو حول الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان. مقتطفات.

 

بقلم ميلفيل جان هيرسكوفيتس

 

ينبغي تناول المشكلة التي تواجهها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة المكلفة بإعداد« إعلان لحقوق الإنسان» من وجهتي نظر. الأولى، وهي التي تحدَّد بمقتضاها الصياغةُ العامة للإعلان، تخص احترام شخصية الفرد في حد ذاته، واحترام حقه في التطور على الوجه الأكمل باعتباره عضواً في المجتمع الذي يعيش فيه. ولكن، في نظام عالمي، يكتسي احترام ثقافة الجماعات البشرية المختلفة نفس القدر من الأهمية.

إن وجهتي النظر هذه ليست إلا جانبين لنفس المشكلة، حيث أن الجماعات تتألف من أفراد، وأن الكائنات البشرية لا تعيش خارج المجتمعات التي تنتمي إليها. وبالتالي فإن المشكلة تتمثل في صياغة إعلان لحقوق الإنسان يتجاوز مجرد التعبير عن احترام الفرد في حد ذاته، لتأخذ في عين الاعتبار صفة الفرد كعضو في المجموعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، لأن أساليب العيش فيها هي التي تحدد سلوكه، ومصيره مرتبط بها ارتباطاً وثيقا.

وبما أنه يوجد في العالم الحديث عدد ضخم من المجتمعات التي تعيش في اتصال وطيد في ما بينها، وبالنظر إلى تنوع أساليب العيش فيها، فإن المهمة الأولى التي تقع على عاتق من يريد تحرير إعلان حول حقوق الإنسان، تتمثل في إيجاد حل للمشكلة التالية: كيف يمكن للإعلان المقترح أن يكون قابلا للتطبيق على جميع الكائنات البشرية، وألا يحاك مضمونه بصفة حصرية حسب القيم السائدة في بلدان أوروبا الغربية وأمريكا؟ [...]

«عبء الرجل الأبيض»

خلال السنوات الخمسين الماضية، اهتدى الإنسان إلى طرق عديدة لحل مشاكل المعيشة، والحياة الاجتماعية، والتعديل السياسي للحياة الجماعية، والتوافق مع الكون، فضلاً عن إرضاء طموحاته الجمالية. وقد وصف علماء الأنثروبولوجيا هذه الطرق وصفا شاملا في البحوث التي أنجَزوها حول شعوب تعيش في كل أرجاء العالم. وإن كانت جميع الشعوب تسعى لبلوغ هذه الغايات، فهي لا تسلك نفس الطريقة أبدا، ويستخدم بعضها وسائل غالباً ما تختلف اختلافاً جذريا عن غيرها.

ولكن هذا الطرح يجرنا إلى مأزق. فبالنظر إلى السياق الاجتماعي للمسار التعليمي، لا يسع الفرد إلاّ الاقتناع بأن أسلوب حياته هو الأسلوب المناسب. وفي المقابل، رغم تسليمه بإمكانية الاستفادة من التغيرات الناجمة صلب ثقافته أو خارجها، يبدو له من الواضح، إجمالا، أن طرق العيش الأخرى التي تختلف عن طريقته الخاصة، هي طرق غير مرغوب فيها بالمقارنة مع الطريقة التي تعوّد عليها. ومن ثم تبرز تقييمات تساهم المعتقدات القائمة في تكريسها.

أما مدى ترجمة هذه التقييمات إلى أفعال،  فذلك يعتمد على الخيارات الأساسية التي يفرزها تفكير الشعب. بصفة عامة، تصبو الشعوب للعيش وتدع غيرها يعيش، وهي عموما متسامحة مع سلوك المجموعات الأخرى ولو اختلفت عنها، لاسيما إن لم تكن في نزاع معها حول موارد المعيشة. إلا أن ما سجله تاريخ أوروبا الغربية وأمريكا هو عكس ذلك، حيث آل التوسع الاقتصادي، والتحكم في الأسلحة، إضافة إلى التقاليد الدينية الإنجيلية، إلى ترجمة الاعتراف بالفوارق الثقافية إلى نداء للتحرك. وبرزت أنساق فلسفية تشدد على المبادئ المطلقة في مجال القيم والغايات، لِتعزز هذا الاتجاه. فتم تحديد مفاهيم الحرية، و طبيعة حقوق الإنسان وما شابهها من أفكار، ببالغ الدقة. كما كانت كل الأفكار المخالفة موضع التنديد والإقصاء في كل الأماكن حيث سلطت الرقابة على الشعوب غير الأوروبية. كما تواصل تجاهل النواة الأساسية التي تشكل أوجه التشابه بين الثقافات.

وكان لتطبيق هذا التوجه تداعيات كارثية على البشرية. فقد استخدمت عقائد «عبء الرجل الأبيض» في سبيل الاستغلال الاقتصادي لملايين البشر في العالم وإنكار حقهم في الإمساك بزمام أمورهم. بل أن توسع أوروبا وأمريكا أدى في عديد الحالات إلى إبادة صريحة لمجموعات بشرية بأكملها. أما تاريخ توسع العالم الغربي، وهو التاريخ الذي تم تفسيره بالدونية الثقافية المفترضة لهذه الشعوب، أو بتخلف «عقليتها البدائية» التي بررت وضع هذه الشعوب تحت وصاية المهيمن، فقد أفضى إلى تدني الروح المعنوية للذات البشرية وتفكك حقوق الإنسان لدى الشعوب التي فُرضت عليها الهيمنة [...].

إعلان ذو بعد عالمي

في القرن الثامن عشر، لم تطرح صياغة إعلان لحقوق الإنسان إلا مشكلة بسيطة نسبيا، لأن الأمر لم يكن متعلقا بحقوق الإنسان، بل بحقوق الناس في إطار اختيارات مجتمع واحد. كما أنه من المحتمل أن يكون الأشخاص الذين تم تفويضُهم لصِياغة وثائق سامية على غرار إعلان الاستقلال الأمريكي أو نص التنقيحات العشر الأولى لدستور الولايات المتحدة، من مالكي العبيد، باعتبار أن تجارة العبيد على نطاق واسع كانت تندرج في النظام الاجتماعي الراسخ في تلك البلاد. لقد اتضح الطابع الثوري للشعار «حرية، مساواة، إخاء» خلال الصراعات الرامية إلى تطبيقه لما بلغ المستعمرات الفرنسية التي كانت تمارس الاسترقاق.

في الوقت الراهن، أصبحت المشكلة أكثر تعقيدا لأن الإعلان يجب أن يكون قابلا للتطبيق في كل ربوع العالم. كما يجب أن يشمل صلوحية العديد من أساليب الحياة وأن يعترف بها. ولن يحظى الإعلان بقناعة الأندونيسي أو الأفريقي أو الهندي أو الصيني، إذا كان على نفس نسق الوثائق المماثلة التي تعود إلى عهد سابق. في القرن العشرين، لا مجال لتقييد حقوق الإنسان بمعايير تخص ثقافة واحدة مهما كانت، ولا يمكن أن تمليها طموحات شعب واحد أيّا كان، وإن حصل ذلك فسوف تؤدي الوثيقة إلى حرمان العديد من الكائنات البشرية من تحقيق شخصيتها الذاتية، بدل مساندتها في ذلك.

وفي حال اعتماد إعلان لا يراعي قيم هؤلاء الأشخاص، فسوف يحرمون من حرية المشاركة الكاملة في أسلوب الحياة الوحيد الذي يلائمهم والذي لا يعرفون غيره، ولا في المؤسسات أو الخيارات أو الغايات التي تشكل ثقافة مجتمعهم الخصوصي.

وحتى عندما تُنكر الأنظمة السياسية القائمة حق المواطنين في المشاركة في حكوماتهم، أو تسعى إلى قهر الشعوب الضعيفة، فمن الممكن التذرع بالقيم الثقافية الأساسية لدفع المواطنين على الوعي بما قد تخلفه تصرفات الطبقة الحاكمة من عواقب، وبذلك يساهمون في كبح جماح التمييز والإخضاع. ذلك أن الأنظمة السياسية ليست إلا جزءا من ثقافة الشعب.

إن المعايير العالمية للحرية والعدل، المستندة إلى المبدأ القائل بأن الإنسان لا يتمتع بالحرية إلا عندما يعيش وفقاً لمفهوم الحرية الذي يحدده المجتمع الذي ينتمي إليه، وإن حقوقه هي تلك التي يسلم بها بوصفه عضواً في مجتمعه، يجب اعتبارها معايير أساسية. وعلى العكس من ذلك، لا يمكن صياغة نظام عالمي حقيقي إلاّ إذا كان قادرا على إقرار حرية التصرف الشخصي لأفراد الوحدات الاجتماعية التي تكونه، وإذا كان يقر بالإثراء الناجم عن تفاعل الشخصيات المتنوعة.

إن الترحيب الذي حظي به ميثاق الأطلسي على الصعيد العالمي، قبل أن يتم الإعلان عن تحديد نطاق تطبيقه، يدل على أن كل الشعوب، مهما تنوعت ثقافاتها، قادرة على استيعاب مفهوم الحرية وتسعى جميعها للتمتع بها. ولا يمكن الاستناد في المرحلة القادمة المتمثلة في تحديد حقوق وواجبات الجماعات البشرية في ما بينها، إلى قاعدة راسخة من المعارف العلمية الحديثة للإنسان، إلاّ بعد أن يُدرَج في الإعلان المقترح تنصيص على حق الناس في العيش وفقاً للتقاليد الخاصة بهم.

الصورة: أليساندرو غاتو

 

ميلفيل ج. هيرسكوفيتس

عالم أنثروبولوجيا أمريكي. شهر ميلفيل ج. هيرسكوفيتس (1895 ـ 1963)  بالبحوث التي أجراها حول مفهوم الثقافة من المنظور الإنساني والنسبي. وقد اضطلع بعمل رائد في مجال الأبحاث المتعلقة بالسود الأمريكيين. درس هذا العالم المتخصص في المسائل الثقافية والاجتماعية المتعلقة بالأمريكان ذوي الأصول الأفريقية في جامعتي كولومبيا وهوارد ثم في جامعة نورث ويسترن بشيكاغو، حيث تولى أول كرسي للدراسات الأفريقية في الولايات المتحدة (1951).