<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 02:10:11 Sep 27, 2020, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide

بناء السلام في عقول الرجال والنساء

أفكار

جذور العنف

cou_01_20_idea_website1.jpg

لا كويفا دي لاس مانوس - مغارة الأيادي الواقعة في وادي ريو بنتوراس - والتي تحمل آثار أيادي بشرية على جدرانها، تعتبر من أهم المواقع السكنية للمجموعات الأولى من الصيادين-الحاصدين في أمريكا الجنوبية. مقاطعة سانتا كروز، الأرجنتين.

العنف ليس مسجلا في جيناتنا. اتّضح لنا اليوم أن الصورة التي تُظهر الإنسان في عصر ما قبل التاريخ على أنه وحشيّ ومحارب، إنما هي أسطورة مُحاكة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد بينت الأبحاث الأثرية أن العنف الجماعي ظهر فعليًّا مع استقرار المجتمعات وتحولها من اقتصاد النهب إلى اقتصاد الإنتاج.

بقلم ماريلان باتو-ماتيس

 

إذا كان الإنسان في عصر ما قبل التاريخ ما زال يُنظر إليه في المخيال الشعبي على أنه عنيف وفي صراع دائم، فهل كانت تلك المجتمعات عنيفة بقدر عنف مُجتمعاتنا؟ البقايا الأثرية وحدها هي التي يمكن أن توفر عناصر الجواب عن هذه الأسئلة. لتوصيف الفعلٍ العنيف، يقوم علماء الآثار بدراسة تأثير المقذوفات، والجروح الموجودة على عظام الجثث البشرية، وحالة الحفاظ على الهياكل العظمية، وتحليل السياق الذي تمّ فيه اكتشافها.

إن أقدم آثار العنف المسجلة لحد الآن هي تلك الناتجة عن ممارسة أكل لحم البشر. وقد لوحظت علامات خلع المفاصل، وبتر العضلات، والكسور والحروق على عظام بشرية تعود للعصر الحجري القديم. تلك الممارسة النادرة نسبيّا التي ظهرت منذ 780.000 سنة، والتي خلفت أثرا في سيارا أتابواركا بإسبانيا، تواصلت في مجتمعات أخرى من الصيّادين-الحاصدين الرّحّل في العصر الحجري القديم، ولدى المزارعين والرُعاة في العصر الحجري الأخير. لكن هذه البراهين على تنكيل إنسان بجسم إنسان آخر تطرح السؤال التالي: هل تمّ قتل الضحايا قبل أكلهم؟ و بالفعل، كانت ممارسة أكل لحم البشر ممكنة على الجثامين الميتة، ومن هذه الممارسات أكل لحم البشر في الجنائز، أي أكل جثمان أحد الأقارب بعد وفاته.

أكل لحم البشر والموت العنيف

إن وجود آثار على عظام الجثث البشرية من قبيل قطع الرأس أو الجروح الناجمة عن تأثير القذائف أو الأدوات الحادّة التي أدت إلى الوفاة، هو وحده الكفيل بدعم فرضية القتل العنيف للضحايا التي تم استهلاكها. في العصر الحجري القديم، سجلت هذه الآثار في أقل من ثلاثين حالة. ويبقى السؤال المطروح كالآتي: هل كان «الآكلون» و «المأكولون»  ينتمون إلى نفس المجموعة؟ إذا كانت ممارسة أكل لحم البشر، سواء كانت لأسباب غذائية أو طقوسية، مشهودا لها اليوم في العديد من المواقع الأثرية التي تعود للعصر الحجري القديم، فمن الصعب في كثير من الأحيان معرفة ما إذا كانت تندرج ضمن منظومة أكل البشر من نفس المجموعة أو من خارجها.

باستثناء هذا السياق الخصوصي، تم تشخيص حوالي اثنتي عشرة حالة عنف - آثار قذيفة، ضربات على الرأس – من بين عدة مئات من العظام البشرية التي تعود إلى أكثر من 12.000 سنة. ولكن، هل كانت هذه الإصابات ناتجة عن حادث أو عن تصرّف عنيف أثناء نزاع بين أشخاص؟ هل حصلت صلب مجموعة واحدة أو بين مجموعات مختلفة؟ يصعب التمييز بين هذه الاحتمالات، في مثل تلك العصور القديمة. إلا أنه في العديد من الحالات، يلاحظ أن الجروح، خاصة منها تلك الناتجة عن صدمة أو ضربة في الرأس، قد التأمت. وبالتالي، يمكن استنتاج أنه لم يتمّ الإجهاز عن هؤلاء الأشخاص، وإلى الاستخلاص بأن تلك الجروح إنما نتجت عن حادث أو عن خصام بين شخصين. أما بالنسبة للحالات الأخرى، يبقى السؤال مطروحا حول هوية المعتدي: هل هو من أفراد المجموعة التي تنتمي إليها الضحيّة؟ أم هو من خارجها؟ هذا السؤال يبقى إلى الآن دون إجابة. ومن جهة أخرى، فإن استعمال العظام البشرية لتصنيع المواد المنزلية أو الحلي يثير مسألة ظروف وفاة أصحابها. وفي أغلب تلك الحالات، يصعب الجزم بأن الوفاة كانت بسبب التعنيف، إذ أن تلك الآثار قد تكون ناجمة عن طقوس جنائزية خصوصية.

اعتمادا على المعطيات الأثرية، يمكن استنتاج وجود شكل من أشكال العنف منذ العصر الحجري القديم، خاصة خلال احتفالات أكل لحوم البشر. لكن لا يُوجد إلى حد الآن أي أثر يدلّ على وجود عنف جماعي. وفي معظم الحالات المُعتمدة (خارج سياق أكل لحوم البشر)، لم تُسجّل حالات تعنيف سوى لِفرد واحد، وقد يدل هذا على وجود صراعات بين الأشخاص (قلّما تكون قاتلة) أو طقوس التضحية. ويمكن لنا إذن القول بأنه، منطقيّا، لم تكن هناك حروب بالمفهوم الحرفي للكلمة في العصر الحجري القديم. وتُوجد عدّة مبررات لتفسير ذلك: قلّة عدد السكان، أراضي غنية ومتنوّعة بما فيه الكفاية، غياب مفهوم الملكية ونظام اجتماعي يعتمد على التساوي وليس على التسلسل الهرمي، إلا نادرا. في هذه المجموعات الصغيرة من الصيّادين-الحاصدين الرحّل كان التعاون والمساعدة المتبادلة بين كافة أفرادها ضروريّيْن لبقائهم على قيد الحياة. وبالإضافة إلى ذلك، كان الانسجام بينهم شرطا لضمان التكاثر، وبالتالي، لتجديد النسل. أما «الوحشية» المزعومة عند البشر في عصور ما قبل التاريخ فهي لا تعدو أن تكون أسطورة حيكت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لتعزيز الخطاب حول التقدم ولدعم مفهوم الحضارة. هذه الصورة للإنسان «العنيف والمحارب» التي أُلصقت به في عصور ما قبل التاريخ ليست سوى نتيجة بناء علمي أكسبه الفنانون والكتاب شعبية واسعة.

تطور الصراعات

يبدو أن العنف الجماعي ظهر مع استقرار التجمعات الذي بدأ في نهاية العصر الحجري القديم، حوالي 13.000 سنة قبل عصرنا في الشرق الأوسط، ولكن هنا أيضا، لم يُقتل سوى شخص واحد أو بضعة أشخاص. وقد يدل ذلك على وجود صراعات صلب المجموعة، ولكن أيضا على ظهور التضحيات البشرية. وهناك استِثناءان هما «موقع 117» بجبل الصحابة على الضفة اليمنى لنهر النيل، على الحدود الشمالية للسودان مع مصر، وموقع «ناتاروك» في الشمال الغربي لكينيا. 

في مقبرة جبل الصحابة، التي يعود تاريخها إلى ما بين 14.340 و13.140 سنة قبل العصر الحاضر، تم استخراج 59 هيكل عظمي - من نساء ورجال وأطفال من جميع الأعمار - من عدة قبور مغطاة بِبلاطات. حوالي نصف هذه الهياكل تدل على أن الضحايا ماتوا موتة عنيفة، إما نتيجة لضربات تلقّوها على الرأس، وإما جرّاء اختراق أجسامهم بحدّ الرمح أو بمقذوفات حجرية ما زال بعضها عالقًا في الجثامين. بالإضافة إلى ذلك، ربما كان ثلاثة من الرجال مُلقين على الأرض عند الإجهاز عليهم. وحتى وإن بقي سؤال دون جواب - هل دفنت الـ 59 جثة في نفس الوقت؟ - ، فإن هذا الموقع  هو أول حالة عنف جماعي تمّ إثباتها. هل كانت صلب مجتمع واحد، أم بين مجتمعات مختلفة؟ هنا، يبقى النقاش مفتوحا. 

ومنذ حوالي 10.000 سنة، في ناتاروك، يبدو أنه تم إلقاء سبعة وعشرين شخصًا، رجالاً ونساء وأطفالا في مستنقع. عشرة منهم تظهر عليهم علامات التعنيف، واثنان قُيّدت أيديهم، من بينهما امرأة حامل. هذه المجموعة الصغيرة من الصيّادين-الحاصدين التي تمّ اكتشافها بعيدًا عن حيّ سكني، قد تكون تمت إبادتها من طرف مجموعة أخرى أثناء تنقلها.

من الافتراس إلى الإنتاج

في العصر الحجري الحديث، كانت آثار العنف أكثر تواترا. تلك الفترة اتّسمت بعديد التحولات المختلفة: منها البيئية (ارتفاع درجات الحرارة)، والاقتصادية (تدجين النباتات ثم الحيوانات، البحث عن أراضٍ جديدة، فوائض المواد الغذائية وتخزينها)، والاجتماعية والمجتمعية (الاستقرار، والانفجار السكاني المحلي، وظهور نخب وطوائف)، ثم في نهاية تلك الفترة، المعتقدات (الآلهة الأنثى تفسح المجال للآلهة الذكر). 

في العديد من المقابر، التي يعود تاريخها إلى ما بين حوالي 8.000 و6.500 سنة قبل عصرنا الحاضر، كانت طبيعة الأسلحة المستخدمة (بالنظر إلى قلّة آثار السهام) وشظايا الفخار الملتصقة بالأجسام، تدلّ على أن النزاعات كانت داخلية أو بين القرى. إن الضحايا تمثل دليلا على وجود نزاع مرتبط بأزمة (ديمغرافية، أو سلطوية، أو منجرّة عن وباء)، أو نزاع ناتج عن ممارسة شعائر – جنائزية، استعطافية، تكفيرية أو غيرها - مصحوبة بتضحيات بشرية تليها في بعض الأحيان وجبات أكل لحوم البشر. إلا أنه لا يمكن استبعاد وجود صراع بين مجموعتين، كما تُبيّنه بعض اللوحات المرسومة على جدران المأوى الصخري لشبه جزيرة أيبيريا التي يعود تاريخها إلى ما بين 10.000 و 6.500 قبل عصرنا، والتي تمثل مشاهد مواجهات مسلحة بين مجموعات من الرماة (ومثل هذه المشاهد لا أثر لها في الفن الجداري للعصر الحجري القديم). 

ويبدو أن تغيير نمط الاقتصاد (بالمرور من الافتراس إلى الإنتاج) الذي سرعان ما أدى إلى تغيير جذري في الهياكل الاجتماعية، قد لعب دورًا رئيسيًا في تطور الصراعات. وخلافا لاستغلال الموارد البرية، فإن إنتاج الأغذية سمح بتحقيق فائض أدى إلى ظهور مفهوم «الملكية»، وبالتالي ظهور عدم المساواة. وسرعان ما أثارت المواد الغذائية المخزنة إرادة الاستحواذ، وتسببت في صراعات داخلية، وكذلك نزاعات بين التجمّعات باعتبار أنها تمثل غنائم. 

وكما يتضح من بروز شخصيات القائد والمحارب في أوروبا خلال العصر الحجري الحديث (وهو ما يمكن ملاحظته من خلال الفن الصخري والنحت في المقابر)، فإن هذا التغيير في النمط الاقتصادي أدى أيضا إلى خلق هرم اجتماعي صُلب المجتمعات الزراعية والرعوية، مع ظهور نُخب وفئات، من بينهم محاربين وما يتبعهم من العبيد الذين أصبح وجودهم ضروريّا للأشغال الفلاحيّة. إضافة إلى ذلك، أثار ظهور نخبة وما لها من مصالح ومنافسات، صراعات داخل مجموعة واحدة لأسباب مُتّصلة بالسلطة، وكذلك نزاعات بين التجمّعات. 

ولم تُصبح آثار النزاعات بين القرى مُتواترة بوضوح إلا بداية من 5.500 قبل عصرنا، وهو عهد تميّز بقدوم مهاجرين جدد. وتضاعفت تلك النزاعات في عصر البرنز الذي بدأ 3.000 سنة قبل عصرنا، وهو العصر الذي تميّز بظهور أسلحة حربية معدنية حقيقية وبظهور الحروب المنتظمة.

الأسباب التاريخية والاجتماعية للعنف

إذا كان من الصعب اليوم تقييم مدى الأهميّة الفعلية لأعمال العنف خلال فترة ما قبل التاريخ، ذلك أن تقييم هذه الظاهرة يخضع لتأثير الوضع الذي بلغته الاكتشافات والدراسات، فإنه بالإمكان تقديم بعض الأفكار. فمن ناحية، يتبين أن عدد المواقع التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ والتي لوحظت فيها أعمال عنف، ضئيل، بالنظر إلى اتساع الرقعة الجغرافية وإلى طول الفترة الزمنية محل الدرس (عدة مئات آلاف السنين). ومن ناحية أخرى، يتبين أنه إذا كان السلوك العنيف ضد الغير قديمًا، فإن الحرب لم تكن دائما موجودة. إن جذورها بدت بالأحرى مُرتبطة بتطور اقتصاد الإنتاج الذي سرعان ما تسبب في حدوث تغيّر جذري في الهياكل الاجتماعية. 

إن العنف ليس مسجلا في جيناتنا، بل ظهر لأسباب تاريخية واجتماعية. ومفهوم «العنف الأوّلي» (الأصلي) ليس سوى خرافة. إن الحرب ليست ملتصقة بقدر الإنسان، وإنما هي نتاج المجتمعات والثقافات التي تُولّدها. وكما تُبيّنه الدراسات حول المجتمعات البشرية الأولى، فإن أي مجموعة، إذا ما وجدت نفسها في مواجهة أزمة ما، فسوف تقاومها بشكل أفضل إذا اختارت التآزر والتعاون بدلاً من الأنانية وروح المنافسة. أما بالنسبة لحقيقة حياة أسلافنا، فمن المحتمل أن تكون بين رؤيتين أسطوريتية، نظرة هوبس «الفجر القاسي» ونظرة روسو «العصر الذهبي».