<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 12:08:21 Sep 28, 2020, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide

بناء السلام في عقول الرجال والنساء

أفكار

هذه الميكروبات والفيروسات التي تصنع التاريخ

 

ليست الأوبئة والجوائح ظواهر جديدة. فالجذام، والطاعون، والكوليرا، والجدري، تركوا بصماتهم القاتلة في تاريخ البشرية. كما أنهم دفعوا بالإنسان إلى أن يضع نفسه موضع التساؤل، وكانوا وراء عديد الإنجازات. 

آنا ماريا كاريلو فارغا

مؤرخة في مجال الطبّ، خبيرة في الجوائح وأستاذة في قسم الصحة العامة بالجامعة الوطنية المستقلة للمكسيك.

 

لقد رافقت الأوبئة تاريخ البشرية منذ العصور القديمة، سواء كانت مرتبطة بأمراض بكتيرية، مثل الطاعون الدُّملي والكوليرا، أو بفيروسات سريعة الانتشار والمتسبّبة في معدلات وفاة مرتفعة، مثل الجدري والإنفلونزا والإيدز.

ونتيجة تسبّبها في أعداد هائلة من الموتى بل في كوارث ديمغرافية أحيانا، يحدث أن تُغيّر، في بعض الحالات، مجرى التاريخ. هكذا عجّل الطاعون الذي ضرب أثينا، بين عامي 430 و426 قبل الميلاد، في سقوط المدينة المحاصرة. كما هلك سكان إمبراطوريتي الإنكا والأزتيك جرّاء جراثيم الجدري التي جلبها الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر. ويرى مؤرخون كثيرون أن الإنفلونزا الإسبانية أسهمت في التعجيل بنهاية الحرب العالمية الأولى.

أمام الجهل بالأمراض المتسبّبة في هذه الأوبئة وطرق انتقالها عن طريق العدوى، بادرت السلطات، منذ وقت مبكّر، إلى اتّخاذ التدابير الوحيدة الممكنة للحدّ من انتشار العدوى والمتمثلة في عزل المصابين بالجذام لوقف انتشار المرض. كان ذلك في القرن الثامن، ثم فُرض العزل الصحي في القرن الرابع عشر في غمرة تفشّي الطاعون حيث كان يُلقى في عرض البحر بجثث المصابين المتوفّين على متن السفن. وفي القرن الرابع عشر، اتُّخذت ، لأوّل مرّة، تدابير العزل الصحي القسري في راجوزة، دوبروفنيك الحالية، ثم في البندقية، في القرن الخامس عشر حيث فرضت المدينتان، آنذاك، على السّفن إجراءات عزل لعدّة أسابيع قبل أن تُعمّم هذه التّدابير على المرافئ المهمّة، مثل جنوة ونابولي في إيطاليا، ومرسيليا في فرنسا.

البحث عن كِباش فداء

كانت عواقب هذه التدابير وخيمة على التجارة. فعلى غرار الطّاعون الجوستيني (من القرن السادس إلى القرن الثامن)، تسبّب الطاعون الأسود، في العصر الوسيط، فى اختلال كبير في خطوط التجارة التقليدية حيث وقع التخلّي عن حوض المتوسّط لصالح منطقة الفلانْدِرز، التي تحوّلت إلى مركز تجاري من الدّرجة الأولى في أوروبا. وفي الواقع، فإنّ الحرص على عدم المساس بالتجارة كان له أثره السيّء على إدارة الأوبئة، مما أخّر، على نحو مأساوي، في اتخاذ التدابير الكفيلة بوقف انتشارها. ولم يكن من النّادر محاولة التجار أو المسؤولين السياسيين التكتّم عن وجود الأوبئة.

كما اتّسم تاريخ الأوبئة بظهور حركات شعبية مناوئة لبعض الفئات الاجتماعية المتهمّة بأنها وراء هذه الأمراض. ففقدان الأرواح البشرية على ذلك النّحو المكثّف، والمتزامن، والمفاجئ، أحدث شعوراً بالخوف والذعر ترتّب عنه البحث عن مذنبين من بين أكثر الفئات فقراً أو لدى السكان المهمّشين الذين كانوا، في أغلب الأحيان، عرضة إلى اعتداءات تمييزية.  

هذه الأوبئة أثارت الأحزان على نطاق واسع، ملحقةً الضرر بأُسَرٍ وقرى بأكملها، حيث تشير التقديرات إلى أنّ الطاعون الأسود، الذي ضرب أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر، قد يكون أودى بحياة 25 إلى 40 مليون ضحية، أي بين ثلث ونصف سكّان ذلك العصر. وقد تطلّب الأمر أكثر من قرنين حتى تسترجع أوروبا عدد سكانها قبل الوباء. ويُقدّر أيضا أنّ الإنفلونزا الإسبانية لعام 1918 قضت بدورها على 50 مليون نسمة في العالم. ويصعب تخيّل حالة الإحباط التي تسبّبت فيها هذه الجائحة إثر نهاية الحرب العالمية الأولى.

هذه الكوارث التي وضعت الإنسان وجها لوجه مع الموت وأمام عجزه عن تفسير ذلك، حملته على التأمّل في وضعه والتّفكير في مصيره. ومثّلت، أيضا، دافعا لإحراز تقدّم في البحث عن وسائل علاجية وتدابير وقائية جديدة. ورغم أنّ الطبّ كان، في نهاية العصر الوسيط، لا يزال في أولى إرهاصاته في هذا المجال، فقد شُرع، بداية من القرن الرابع عشر، في فرض بعض تدابير النظافة الصحية من قبيل تغيير أغطية المرضى وملابسهم. وأصبحت السلطات تراقب عمليات التزوّد بالمياه بعد أن اجتاحت الكوليرا مدينة لندن في منتصف القرن التاسع عشر. 

نشوء سياسات الصحّة العامة

أدّى تعاقب الأوبئة ببلدان عديدة إلى إدراك حقيقة مفادها أن كلفة التّعامل مع الأزمات الصحية تتجاوز بكثير كلفة الوقاية منها. فوباء الكوليرا، باعتباره مرضا اجتماعيا بامتياز، سلّط الأضواء على ظروف العيش والعمل المزرية لمعظم سكّان العالم. هكذا فُرضت، تدريجيا، ضرورة وضع سياسات صحية طويلة المدى لتعزيز تدابير النّظافة الصحيّة، واعتماد مدونات قواعد صحيّة، وإجراء بحوث بشأن أسباب الأمراض والوقاية منها.

ولما كانت الأمراض لا تحترم الحدود، فقد تطوّر التعاون الدولي في مجال الصحة العامة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث أسفر عن سلسلة من المؤتمرات، وصياغة معاهدات صحية دولية.

ففي عام 1851، نظّمت اثنتا عشرة دولة في باريس أوّل مؤتمر دولي للصحّة  لمحاولة تفادي انتشار الأوبئة، لاسيما الكوليرا والطاعون، من خلال الحدّ قدر الإمكان من القيود المفروضة على التجارة وحرية تنقل الأشخاص. وأسفر هذا المؤتمر عن إبرام اتفاقية دولية مرفقة بمدوّنة دولية تخصّ الطاعون، والحمّى الصفراء، والكوليرا، تبعته خمسة مؤتمرات مماثلة. غير أنه وجب انتظار عام 1903 للمصادقة على اتفاقية صحية دولية، ثمّ النصف الثاني من القرن العشرين لإنشاء منظمة الصحة العالمية، عقب الحرب العالمية الثانية.

ولئن كان تنقّل الميكروبات أو الفيروسات السبب الأصلي في انتصار الأوبئة، فإنه لا يكفي لتفسيرها إذ هي تنشأ أيضا، في كثير من الأحيان، جراء الأزمات البيئية، أو الغذائية، أو تلك المتعلّقة بالهجرة، أو نتيجة عوامل صحية، واقتصادية، وسياسية. كما أنّ لهذه الأوبئة تأثيرها على تفاقم الأزمات السابقة الوجود، والتي غالبا ما تسبّبها الحروب والمجاعات.

والجائحة الحالية ليست استثناءً. فهي مؤشّر على أزمة تتعلّق بنمط الحياة. وقد بيّنت الدراسات العلمية أن التدهور المنهجي للطبيعة يشكّل السبب الأساسي لجائحة كوفيد ـ 19 ولا سيّما الإنتاج الصناعي للماشية، وإزالة الغابات. وهذه الظاهرة الأخيرة تفرض ضغطاً لا يطاق على الموائل، مما يُجبر الحيوانات على التنقل الذي يساعد، في نفس الوقت، على انتقال مسبّبات المرض من نوع إلى آخر، مثلما حدث بالنسبة لفيروسي إيبولا وزيكا.

معلوم أنّ الأوبئة تُسبّب حالة حزن جماعي، بيد أن التاريخ يبيّن أن لها دوماً نهاية. ففي أعقاب كل وباء من الأوبئة، تتوفّق البشرية إلى إعادة تشكيل ذاتها وتحقيق عدد من المنجزات. ولعلّ الوباء الحالي قد يفضي بنا إلى عالم أكثر احترامًا للبيئة وللحياة البشرية.

 

قراءات تكميلية

الجائحة: المسؤول هو الإنسان، رسالة اليونسكو، مايو 2020

فيروس نقص المناعة (السيدا): حالة طوارئ، رسالة اليونسكو، يونيو 1995

صحّة العالم: عشر سنوات من الإنجازات، رسالة اليونسكو، مايو 1958

 

اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني 100%.

تابع  رسالة اليونسكو على تويتر، فايسبوك، أنستغرام