<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 05:58:24 Mar 16, 2022, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide
Story

كيف ترى خبيرة مخضرمة في اليونسكو مستقبل التعليم

28/01/2022
Beirut, لبنان

دقّت الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الجمعة. باقٍ ساعة على نهاية دوام العمل... ساعة على بداية عطلة نهاية الأسبوع. تعالت الطَّرقات على باب أحد المكاتب في الرّواق ولاقاها صوت دافئ داعيًا الطارق إلى الدخول. ها هي ذا، منكبّة على عملها وراء مكتبها والابتسامة تزيّن محيّاها. إلى يمينها أنسجة مزخرفة ملوّنة وتذكارات ثقافية وتاريخية معلّقة على الحائط، من بينها تذكار لمعبد جوبيتر ومعبد باخوس من مدينة بعلبك اللبنانية. وإلى اليسار رفوف تعجّ بالكتب والدفاتر الملوّنة التي تحمل بين طيّاتها ما جال في بال هذه السيدة العريقة من خواطر وأفكار، وما عاشته من تجارب، وما أنجزته من أعمال. وإذا ما تفحّص الزائر الكتب عن كثب، وجد اسمها مكتوبًا على بعض الأغلفة: داكمارا جورجيسكو.

 بدأت داكمارا حياتها المهنية معلّمةً في مدرسة ثانوية في رومانيا، ثم شغلت منصب مستشارة وزير التربية والتعليم الروماني قبل أن تنتقل إلى جينيف للانضمام إلى مكتب التربية الدولي لليونسكو كأخصائية برامج مسؤولة عن تنسيق المساعدة الفنية لتطوير المناهج. وحطّت داكمارا في بيروت في عام 2012، حيث تعمل حتى الآن مع مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية كأخصائية برامج للمناهج والمعلمين والتعليم العالي. وهي الرأس المفكّر في العديد من المبادرات والأنشطة التي تهدف إلى تطوير المناهج ودعم شؤون المعلمين في المنطقة العربية. وعلى مرّ السنوات، شهدت داكمارا العديد من التحوّلات في مجال التعليم، بما في ذلك جائحة كورونا الذي هزّت العالم وألقت بظلالها على المستقبل.

وبعد سنتين على بداية الجائحة، ما زالت داكمارا تعمل من دون كلل أو ملل مع الشركاء والجهات المعنية الإقليمية والدولية لتوفير الدعم للممارسين التربويين في المنطقة. فقد سرّعت الجائحة وتيرة الانتقال إلى الحلول الرقمية وعزّزت استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم، ما دفع المعلمين إلى التكيُّف بسرعة مع السياق الجديد. وتقول داكمارا مقِرَّةً "إنّ التحوُّل المفاجئ إلى التعليم عن بُعد وعبر الإنترنت من دون أي تدريب أو خبرة كان صعبًا على المعلمين حتى في البلدان المتقدّمة". فقد اضطروا إلى التخلي عن طرق التدريس التي اعتادوا عليها والاعتماد على الموارد القليلة المتاحة للتعلم الذاتي، للعثور على ما يناسبهم من حلول وأساليب وأدوات قائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتكيُّف مع الواقع المتغير. وتشددّ داكمارا على نقطة مهمّة، "علينا أن نرى ما يُجْدي وما لا يُجدي. فمن المهم أن نجمع الممارسات الفضلى لتوجيه المعلمين وإرشادهم لإيجاد الدعم". ومن المهم أيضًا تدريب المعلمين وتمكينهم من المهارات التي يحاولون نقلها إلى تلاميذهم، سواء أكانت تكنولوجية أو ما وراء المعرفة أو غير ذلك.

وفَتَحَ الانتقال العالمي إلى التعلم عن بعد والتعليم القائم على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات البابَ للعديد من التنبؤات المثيرة للجدل حول مستقبل التعليم. ففي محاولة لمواكبة التطورات التكنولوجية والاستفادة من كافة إمكاناتها، يُلِحُّ البعض على توسيع نطاق استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم. أما البعض الآخر، فلا يكتفي بمطالبة رقمنة التعليم بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيُطالب بالتخلص من المحتويات التعليمية التقليدية "القديمة المبطلة" من المنهج الدراسي، بما في ذلك الحفظ والتلقين ومهارات القرائية والحساب الأساسية. وهنا، تدقّ داكمارا ناقوس الخطر وتَهُمُّ بالشرح، "الحفظ والتلقين من الأدوات المهمة التي تتيح للمتعلمين تخزين المعرفة والمعلومات ومعالجتها وترسيخها. وبالنسبة إلى المهارات، ينبغي على المرء أن يتقن المهارات الأساسية قبل أن يتمكن من تعلُّم مهارات أكثر تقدّمًا". فمَنْ يحاول محو الأساسيَّات في المنهج الدراسي كَمَنْ يحاول أن يركض قبل أن يتمكن من المشي، ما يسبّب مشكلة خطيرة للمتعلّمين الذين يُحرَمون من المكونات التأسيسية التي تسهّل عليهم اكتساب المعارف والمهارات المعقّدة وإحراز التقدُّمِ في التعلم مدى الحياة.

وعلى ضوء ما سبق، تُسْهِبُ داكمارا في التفكير في ما يجعل المنهج الدراسي منهجًا جيدًا. "المنهج الدراسي هو أساس التعليم. وفي هذا المجال، ليس من المفترض أن ينصبّ التركيز على ما ينبغي أن يتعلّمه المتعلمون فحسب، بل ينبغي التركيز أيضًا على مسائل أخرى، مثل، لماذا وكيف وإلى أي مدى يتعلّمون". وبالتالي، إنّ المنهج الدراسي الجيد هو الذي يزوّد المتعلمين بما يلزمهم من معارف ومهارات أساسية ليعيشوا حياتهم وليصبحوا أناسًا صالحين ومواطنين نشطين، وهو أيضًا الذي يعلّمهم كيف يطبّقون ما تعلّموه لحل مشاكلهم وإيجاد حلول بنّاءة، سواء أكان فرديًا أو جماعيًا. والمنهج الجيد يواكب العصر. والأهمّ هو أنه لا يقتصر على المجال المعرفي فحسب، بل يشمل أيضًا المجال الاجتماعي والعاطفي، والمجال السلوكي، والمهارات الحركية، والمهارات اللازمة لفهم النظريات والمفاهيم وترجمتها إلى ممارسات عملية. وأخيرًا، المنهج الجيّد هو الذي يحفّز المتعلّمين على استثمار وقتهم وجهدهم في التعلُّم باستخدام أساليب مرحة وفعّالة.

وتستخلص داكمارا وتشدد على أنّ المستقبل لا يقوم على التخلُّص من "القديم" لإفساح المجال "للجديد"، بل على النظر في كيفية الاستفادة من القديم والجديد معًا وإيجاد توازن مُجْدٍ بينهما.

اقتربت الساعة السادسة مساءً. وقد سبق أن حطّ الظلام رحاله في الخارج. وضّبت داكمارا أغراضها وهمّت بالعودة إلى المنزل، إلى قطّها "Habi" (اختصار لكلمة "حبيبي")، رفيقها الوحيد بعيدًا عن عائلتها. انطفأت الأضواء أخيرًا في مكتب اليونسكو بيروت معلنةً بداية عطلة نهاية الأسبوع بعد طول انتظار.