هل تتخيَّل أن تذهب إلى عملك صبيحة أحد الأيام، لتكتشف معلومة تخصُّ تاريخ مدينتك وأجدادك ولكنها كانت مجهولة تماماً قبل ذلك؟
هذا ما حصل لفريق مؤلَّف من 40 عاملاً وعالم آثار من الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية، كانوا يعملون في مجمَّع جامع النوري، الذي تُعيد اليونسكو بناءه بالشراكة مع الإمارات العربية المتحدة والحكومة العراقية. وكان جامع النوري قد تعرَّض للهدم خلال الحرب وأُعيد بناؤه لبنة بعد أخرى، باعثاً الأمل في المدينة التي مزَّقتها الحرب. وقد توصَّل علماء الآثار إلى اكتشاف غير مسبوق مدفون تحت الأرض، أسفل قاعة الصلاة في جامع النوري، ولم تأتِ كتب التاريخ على ذكره.
وقد اكتشفت أيضاً قطع أثرية خلال عمليات التنقيب، منها جرار وقطع فخارية وحجارة منحوتة، فضلاً عن عملات معدنية تعود إلى عصور مختلفة.
تُعتبر عملية إعادة بناء جامع النوري من أكثر المشاريع طموحاً وتعقيداً في العصر الحديث، فهي تتطلب اتخاذ العديد من الخطوات من أجل ضمان سلامة الموقع وتدعيم ما تبقى من الهيكل، والحفاظ على الحجارة المبعثرة التي يمكن استخدامها في عملية إعادة البناء.
وكانت دراسة الموقع قد بدأت في شهر آب/أغسطس من عام 2021، بغية ضمان سلامة الأُسس، واستُهلَّت عمليات التنقيب قرب قاعة الصلاة، وكشف العمال تدريجياً الأرضية الأصلية للجامع التي كانت موجودة قبل إعادة بنائه في أربعينات القرن الماضي؛ وبينما كانوا يعملون على الجزء المكشوف حديثاً من الأرضية، لاحظوا وجود فجوات تحتها، قادتهم إلى قاعة شبه مدفونة تحت الجامع.
ويتميز هذا الطراز المعماري إلى جانب هذا النظام لتوزيع المياه بفرادته، فهو مخصَّص لجامع النوري وليس من الشائع وجوده في العراق، وقد بقي مدفوناً لسنوات عديدة ولكنه أبصر النور أخيراً، مقدماً إلى سكان المدينة جزءاً جديداً من تاريخهم وتاريخ مدينتهم.
تعمل مفتشية آثار وتراث نينوى مع اليونسكو من أجل الحفاظ على هذه الأجزاء، وضمان إعادة تأهيلها وحفظها كمتحف مفتوح أمام الزوار، لكي يتعرفوا على مختلف المراحل التي مرَّ بها بناء الجامع وعلى تاريخه الممتد على ثمانية قرون.
وكان جامع النوري القائم في قلب المدينة القديمة في الموصل بالعراق، ومئذنته الحدباء المحبَّبة التي تهيمن على المشهد في سماء الموصل، والمطلة على باحات المنازل المجاورة وأزقة المدينة، قد تعرَّضا للدمار في عام 2017 بسبب النزاع الذي أحال هذا المعلم الرمزي إلى أنقاض، مخلِّفاً وراءه أناساً مصدومين ويائسين.
وفي عام 2018، بعد أقل من عام على نهاية النزاع، أطلقت اليونسكو مبادرتها الرائدة "إحياء روح الموصل"، واستهلَّت العمل على إعادة بناء هذا المعلم الأثري الهام بالشراكة مع الإمارات العربية المتحدة وبالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية وديوان الوقف السني. وقد تجاوز دور المشروع إعادة بناء المعالم التراثية، فقد وفَّر فرص عمل جديدة وعزَّز التماسك الاجتماعي في مدينة دمَّرتها الحرب.
أبرمت الإمارات العربية المتحدة شراكة مع اليونسكو، في إطار مبادرة اليونسكو الرائدة "إحياء روح الموصل"، الرامية إلى إحياء روح التعايش السلمي والتماسك الاجتماعي من خلال التراث والحياة الثقافية والتعليم، وخصَّصت الإمارات مبلغاً قدره 50.4 مليون دولار أمريكي لترميم وإعادة بناء معالم تاريخية في الموصل، وهي جامع النوري والمنارة الحدباء وكنيستي الساعة والطاهرة. وتعمل اليونسكو بموجب شراكة مع الإمارات العربية المتحدة، وبالتنسيق مع الحكومة العراقية وشركاء محليين وخبراء دوليين.