<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 12:24:10 Jun 25, 2022, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide

بناء السلام في عقول الرجال والنساء

أفكار

الفن المعماري التقليدي، مصدر إلهام لمساكن الغد

cou_04_19_idea_amin_bis_internet_site.jpg

بناية مدرسة الخياطة في نيامي (النيجر) التي أنجزت سنة 2011، توفق بين المهارات التقليدية والمواد المحلية وبين التكنولوجيات المطورة حديثا. ولضمان ديمومة العمارة المبنية بأكملها من الطوب المخلوط بالقش لعزلها عن الحرارة المرتفعة، تم تنصيب سقف من حديد

إن المدن الحديثة، بشوارعها المعبّدة وأبراجها الزجاجية، غير مؤهلة لمواجهة الارتفاع المتوقع لدرجات الحرارة. وبما أن البِنايات التقليدية في الشرق الأوسط أو في بلدان الخليج أو في أفريقيا ملائمة لتوفير الظل وتسهيل التهوئة، من الممكن أن تشكل مصدر إلهام لتصميم سكن مستدام ومراعي للبيئة.

بقلم أمين الحبايبة

 

أصبحت المدن معرضة أكثر فأكثر لخطر بلوغ درجات الحرارة مستويات قصوى، وذلك بفعل احترار المناخ وارتفاع مستوى غازات الدفيئة. وينطبق هذا بصفة خاصة على بلدان الخليج، حيث من المتوقع أن تبلغ درجات الحرارة أثناء القرن الحادي والعشرين مستويات تتجاوز 50 درجة مئوية في المتوسط. لكن مناطق أخرى من العالم ليست في مأمن من ارتفاع الحرارة، لاسيما أوروبا، حيث سجلت درجات حرارة قياسية أثناء صيف عام 2019 في فرنسا والمملكة المتحدة، فضلاً عن سويسرا.

تعتمد أساليب الحياة والعمارة الحديثة اليوم على الهواء المكيّف وعدد من المواد المستخدمة منذ عهد قريب، من قبيل الأسمنت أو الأسفلت أو الزجاج. غير أن هذه المواد ليست ملائمة لمواجهة درجات الحرارة الشديدة. ذلك أن الزجاج يعكس أشعة الشمس نحو المناطق المحيطة، مما يفضي إلى إحداث رقع حرارية وما يقترن بها من خطر  انحصار الهواء الدافئ داخل العمارات. ويمتص الأسفلت جزءًا كبيراً من أشعة الشمس ويحوّلها إلى تدفقات حرارية تساهم في احترار الجو المحيط. أما الأسمنت فيستهلك إنتاجه كميات ضخمة من الطاقة مما يتسبب بنسبة كبيرة في الاحترار العالمي جرّاء انبعاثات الكربون. وبالإضافة إلى ذلك، لا يشجع التخطيط العمراني على استخدام المواصلات العامة، بل يستلزم في كثير من الأحيان استعمال العربات الخاصة، الأمر الذي يسفر عن تضخم التلوث وزيادة الرقع الحرارية عندما تقترن بنُظم تكييف الهواء في العمارات.

ومن الناحية التاريخية، قبل حلول نمط الحياة الحديثة، كان أغلب سكان الكوكب يعيشون على نحو أكثر انسجاماً مع البيئة المحيطة بهم، سواء كانوا مزارعين مستقرين في الواحات أو في القرى ويقتاتون من منتجات الزراعة والصيد، أو بدوا رحلا يخيّمون في الصحراء، أو من سكان المناطق الحضرية.

وكانت المواد التي يستخدمونها لبناء مساكنهم تأتي من محيطهم، وهي مواد مستدامة وملائمة لِنمط معيشتهم، وتعتمد على ما يُسمَّى اليوم «الاقتصاد الدائري». وكان البدو، وهم رعاة الماشية الرحّل، يعيشون في خيام تضمن لهم إمكانية التأقلم، و في نفس الوقت  أقصى قدر من الحماية من قسوة المناخ. وقد تم تصميم الخيام وصنعها على نحو يكفل التكيف التام مع البيئة، مع استخدام المواد المتاحة، أي شَعْر الماعز وصوف الأغنام، ولذلك تسمى هذه الخيام في الجزيرة العربية «بيوت الشَّعْر».

مواد طبيعية مراعية للبيئة

تتيح المواد التي تُصنع منها الخيام تدفق الهواء، كما أنها تمنع نفاذ الماء في الفصول الممطرة نظرا لانتفاخ أليافها عندما تتبلل. وقد اعتاد البدو الذين كانوا يعيشون تحت مناخات جافة وحارة ترطيب الخيام وما حولها، وكذلك الملابس أو السَّجاد، للتخفيض من درجات الحرارة بفعل تبخّر الماء. كما أن قابلية الخيام العالية من حيث العزل تضمن البرودة في الصيف والدفء في الشتاء مع الاستعانة بموقد صغير. وليس هناك ما يمنع من استخدام هذه المواد لابتكار فن معماري حديث من شأنه أن يساعد على تحمل درجات الحرارة القصوى.

أما المباني، فكانت تتميز بجدران سميكة للغاية مكونة من مواد طبيعية ومراعية للبيئة، من قبيل الحجر الجيري أو الطين المخلوط في بعض الحالات بنباتات صحراوية محلية، مما يوفر مادة ذات قدرة عالية على ضبط درجات الحرارة داخل المباني. كما تتميز هذه المادة بقدرة على امتصاص الرطوبة أثناء الليل، وإعادتها بمفعول التبخر لما ترتفع حرارة الجو تحت أشعة الشمس. ويعتبر القصر الأحمر في محافظة الجهراء بالكويت من أبرز الأمثلة على هذا الأسلوب المعماري والتكنولوجيات التي سادت في ما مضى في منطقة الخليج. 

وفي المناخات الحارة، كان تصميم المدن والعمارات يستجيب لضرورة توفير أقصى قدر من الظل والحد من ارتفاع الحرارة الآتية من أشعة الشمس بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وضبط درجات الحرارة داخل المباني، فضلاً عن تيسير تدفق الهواء بغرض التبريد. كما كانت الشوارع مرصوفة بأحجار طبيعية أو مغطاة بالرمال فقط، مما يجعلها مناسبة لدرجات الحرارة المرتفعة أكثر بكثير من الشوارع المعبدة بالأسفلت. ونظرا لضيق الطرق وتجاور المباني، تكون أجزاء المدينة المعرّضة للشمس قليلة جدا مقارنة بإجمالي حجم المباني، وهكذا يتم الحد من ارتفاع الحرارة نهارا.

توفير الظل وتسهيل تدفق الهواء

كانت المباني تحتوي على أفْنية داخلية محاطة عموماً من جميع النواحي بغُرف أو جدران، وتمثل فضاءات واسعة مخصصة للأنشطة الاجتماعية أثناء الليل، وحتى بعد الظهر بفضل الظل الذي توفره الغُرف المحيطة. وفي كثير من الأحيان، كانت الأفنية الوسطى مزروعة  بالأشجار وتحتوي على بئر أو نافورة. وفي الظهيرة، تقوم تلك الأفنية بدور منافذ للتهوية، يتصاعد منها الهواء الساخن حتى يتلاشى ليحل محله هواء أكثر نقاءً آت من الغُرف المحيطة، وفي ذلك تحسين لِتدفق الهواء وتبريد الجو. كما كان يستخدم البئر لتخزين مياه الأمطار.

لقد كان هذا النمط المعماري رائجاً بدرجة كبيرة في دمشق والأندلس. أحيانا، كانت الأزقة الضيقة تغطًّى بمواد خفيفة آتية من أشجار النخيل لتسهيل تدفق الهواء بين الشوارع، مثلما تسهّل الغرف تهوِئة أفْنية المنازل. وكانت تركيبة الجدران ولَونها الرملي تساعد على الحد من امتصاص الحرارة المشعة وانبعاثها.

ولم يكن الزجاج مادة من مواد البناء الشائعة. وكانت بعض الغرف تحتوي على نافذتين: إحداهما نافذة سقفية تبقى مفتوحة حتى يتدفق الهواء ويدخل الضوء الطبيعي، مع الحفاظ على حرمة الحياة الخاصة، والأخرى أكبر حجماً مجهزة عادةً بمصراعين من الخشب الشبكي يتيحان مرور الهواء، مع تأمين الحماية من الأنظار.

أما المشربية، وهي نافذة بارزة ذات تعريشة من الخشب المنقوش توجد في الأدوار العليا من المبنى، فهي تضمن تحسين تدفق الهواء والحماية من التعرض المباشر لأشعة الشمس. وكانت عنصرا معماريا شائعاً في مناطق عديدة بالشرق الأوسط مثل مصر والحجاز والعراق حيث تسمى «روشان» أو «شناشيل».  وكانت بعض البنايات في منطقة الخليج مجهزة بأبراج رياح تتيح تهوية طبيعية، مع إمكانية فتح المصاريع أو غلقها حسب اتجاه الرياح، وهي طريقة مماثلة لنظم تبريد الهواء الحديثة.

ومن الحلول التي تم اللجوء إليها للحصول على أكبر قدر من الظل وتحسين تدفق الهواء، البناء على المرتفعات وإنشاء الأديرة التي تعلوها قباب للزيادة في كمية الهواء الداخلي والحد من ارتفاع الحرارة الخارجية. والمغزى هو إحداث فارق حراري يثير نسمة منعشة مهما كانت قوة الرياح.

التناغم مع الطبيعة

في أفريقيا، حتى يومنا هذا، يتواصل إنشاء أكواخ من الطوب، وهي أبنية بسيطة ومستدامة من طين وقش، توفر لا فقط التبريد الطبيعي، بل وتتميز أيضاً بكونها سريعة البناء ومنخفضة التكلفة وقابلة لإعادة التصنيع. والأمر كذلك بالنسبة لمنازل المعدان التقليدية المبنية من القصب والموجودة في منطقة المستنقعات بجنوب العراق، التي تتميز من حيث تصميمها وهيكلها الأصلي، بتوفير الحماية من الحرارة وتدفق أفضل للهواء. 

وفي البتراء بالأردن، ذهب الأنباط إلى حد أبعد في التناغم مع الطبيعة، مستخدمين الخمود الحراري للأرض. فقد شيدوا مدينة ذات تخطيط حضري بارع تميّز بمسكن ابتكاري ونظام فعال لتجميع مياه الأمطار. وقد استفاد السكان في ذلك التاريخ من التضاريس الجبلية للمنطقة وحفروا فيها مساكن تتسم بجوٍ معتدل في الصيف كما في الشتاء، إذْ أن درجة حرارة الصخور لا تتذبذب تبعاً لدرجة الحرارة الخارجية مثلما هو الشأن بالنسبة للبنايات الحديثة. وتوجد أبنية أخرى مماثلة استخدمت فيها ظاهرة الخمود الحراري للأرض في كابادوكيا (تركيا)، ولدى شعب سيناغواس في الولايات المتحدة، سواء تعلق الأمر بالمنازل الموجودة على جانب المنحدر في قلعة مونتيزوما (أريزونا) أو الحُفر أو الفجوات والدروب المحفورة في أحجار التوفة بهضبة تسانكاوي (ولاية نيو مكسيك).

ومن بين الفنون المعمارية الأكثر إثارة للاهتمام، المساكن البربرية الواقعة في مطماطة بالجنوب التونسي والمتمثلة في كهوف تحت سطح الأرض. يبدأ إنجاز المسكن بحفْر بئر كبير، عموما على جانب تلة، ثم حفر كهوف داخل البئر تقوم مقام غرف سكنية، فيصبح البئر فناء وسطي محاطا بالغرف. ويتميز هذا الفن المعماري بكونه يحمي حماية تامة من حرارة الجو. وجدير بالذكر أن أحد هذه المنازل في مطماطة، الذي تحوّل اليوم إلى فندق، كان قد استخدم عام 1977 في الحلقة الرابعة (أمل جديد) من فيلم حرب النجوم (ستار وورز) كمقر إقامة  لوك ووكر على كوكب تاتوين.

وكان نمط الحياة يشكّل وسيلة أخرى للصمود في المناخات الحارة. كان يوم العمل يبدأ قبيل الفجر، ويحتمي السكان من الشمس من الظهر حتى المساء، ثم يستأنفون أنشطتهم الاجتماعية والمهنية عندما تخف حرارة الجو. وما زالت هذه الثقافة سائدة في بلدان الشرق الأوسط وإسبانيا (القيلولة). أما مياه الشرب فكانت تُحفظ في جِرار من الصلصال أو في قِرَب من الجِلد، وتوضع في أماكن مظللة، وتفضي عملية التبخّر إلى تبريد الماء والجو المحيط على السواء. كما كانت الملابس مصنوعة من مواد طبيعية، ومصممة لتكون متسعة تسهيلا لتدفق الهواء وتخفيفا من أثر الحرارة. وتجنّبا للحروقات الشمسية، كانت الملابس تغطي كامل الجسد تقريباً. وفي كثير من الأحيان، كانت رؤوس الرجال كما النساء محمية بمناديل للحد من فقدان مياه التنفس، وترشيح الغبار، والحماية من ضربات الشمس ومكافحة تجاعيد البشرة. تحمل هذه المناديل التي تغطي الرأس والوجه أسماء مختلفة حسب الجنس والمنطقة والشكل، إلا أن جميعها يمثل أداة هامة للوقاية الصحية.

التأليف بين دروس الماضي والتكنولوجيات الحديثة

من التقاليد القديمة في أوروبا تخزين النبيذ في الدهاليز للاحتفاظ بطيبته مهما تغيرت درجات الحرارة، بفضل ثبات درجة حرارة الأرض، ويمكن تطوير هذا المفهوم لتعديل الحرارة سواء كان الجو ساخنا أو باردا. إن اللجوء إلى المفاهيم التقليدية في العصر الحديث قد يمثل حلاًّ إضافيا.  في بعض العمارات الحديثة في مدينة إشبيلية الإسبانية، تم الاستلهام من الفن المعماري التقليدي، ووضعت نافورات محاطة بالأشجار في وسط أفنية العمارات للتخفيض من درجات الحرارة.

وفي الإمارات العربية المتحدة، تم التأليف بين بعض دروس الماضي والتكنولوجيات الحديثة لتصميم مدينة مصدر من خلال الجمع بين المشربيات والشوارع الضيقة والألوان التقليدية.

كما تسعى بلدان أخرى في منطقة الخليج إلى تصميم بنايات مستدامة ومراعية للبيئة. وبفضل البحوث الجارية وعمليات تحسين مواد البناء المستخدمة، وتصميم الأبنية والتخطيط الحضري والعزْل واستخدام الطاقات المتجددة، قد تتمكن مدن الخليج وغيرها من المدن في البلدان الحارة من الحفاظ على نمط حياتها المريح مع التخفيض في انبعاثات الكربون واستهلاك الطاقات الأحفورية.

أما في أوروبا، حيث من المتوقع أن تتذبذب درجات الحرارة في المستقبل بين الحر والبرد الشديدين، فقد يكون في مقدورنا أن نبدأ بإضافة وسائل عازلة ومواد طبيعية حتى نزيد في سُمك جدران عماراتنا، بغرض تخفيض احتياجاتنا المتعلقة بالتدفئة في الشتاء وتكييف الهواء في الصيف.

ومن حُسن الحظ أن ارتفاع درجات الحرارة مقترن بزيادة في إنتاج الطاقة الشمسية المتجددة. وبالتالي، في معظم المساكن، يمكن أن توفر الطاقة الشمسية الفولطاضوئية المرتبطة بالعزْل الطاقة اللازمة في فصل الصيف لتغذية نُظم الهواء المكيف بغية ضبط ارتفاع درجات الحرارة الداخلية. ومن الممكن أن تظهر كذلك رقع حرارية على طرق المرور، لاسيما وأن هذه الطرق معبدة بالأسفلت. حينها، قد تساعد غراسة الأشجار على تعديل درجات الحرارة في أوروبا وترطيب المحيط.

إن العزل من شأنه أن يحد من الاحتياج للهواء المكيف ومن استهلاك الكهرباء. ومن الممكن أن يؤدي استخدام المواد الطبيعية أو الابتكارية التي تمتص الرطوبة وتزيد القدرات الحرارية إلى تعديل ارتفاع درجات الحرارة وعملية التبريد الطبيعية. كما أن تخطيطا حضريا ذكيا يحاكي المدن القديمة من شأنه أن يجعل من استخدام المواصلات العامة خيارا واقعيا. وبما أن مياه البحار تحتفظ بدرجة حرارة معتدلة مقارنة بحرارة الهواء، فسوف يصبح من الممكن، وبكل سهولة، استبدال أجهزة تكييف الهواء الحالية لتحل محلها نُظم للتبريد والتدفئة واسعة النطاق على مستوى الأحياء. و يمكن تطبيق التكنولوجيا ذاتها على مياه الأنهار ومياه مناجم الفحم الغارقة.

هناك العديد من الدروس التي يمكن استخلاصها من نمط المباني التقليدية في العالم، من شأنها أن تساعدنا على الاعتراف بقيمة تراثنا، وعلى نقل البعض من هذه المعارف في تصميم المباني وتخطيط المناطق الحضرية في المستقبل. لقد توصلت الشعوب، على مرّ القرون، إلى تصميم أبنية مستدامة من حيث متطلبات التدفئة وتكييف الهواء، بفضل استخدام تقنيات مبتكرة ومواد مستدامة مستقاة من البيئة المحلية. وإن أردنا الحد من الاحترار العالمي من أجل أجيال المستقبل، علينا أن ندمج هذه الدروس في التكنولوجيات الحديثة بغية تشييد مدن مستدامة خالية من الكربون.

 

أمين الحبايبة

أستاذ في مدرسة العمارة والتصميم والبيئة المبنية بجامعة نوثنغام ترينت، يدير أمين الحبايبة (المملكة المتحدة) أيضاً فريق البحث المعني بالتكنولوجيات الابتكارية والمستدامة للبيئة المبنية.