فكرة

مونْدِيا كيبانجا، زعيم تقليدي من بابوا، وَفِيٌّ لجذوره

مونْدِيا أصيل بابوا غينيا الجديدة الّتي دُمِّرت ربع غاباتها على مدى الثلاثين عامًا الماضية. وهو اليوم يجوب العالم لنقل رسالة أسلافه القدامى مذكّرا بأنه في كل مرّة تُقطع فيها شجرة يموت معها جزء من البشرية.
Mundiya Kepanga standing on a stump in Papua New Guinea

أنولينا سافولاينان

اليونسكو

في تاري ببابوا غينيا الجديدة، 1965. وُلد صبي على سجّاد من أوراق التّين القديمة جدًا في غابة الأراضي العليا. اسمه  مونديا Mundiya و يُنطق "مونديدْجا Moundidjê".

وكما جرت العادة المتمثلة في زرع شجرة مع كل ولادة وكل وفاة في تلك القرية التي تسكنها جماعة هوليس Hulis المحلية والتي تتغذّى أساسا من البطاطا الحلوة، زُرعت شجرة بمناسبة مولد الصبيّ. والقرية عبارة عن مجموعة أكواخ تحيط بها غابات يسكنها طيور الفردوس والكنغر الشجري وعدد من الأجناس الحيوانية النّادرة. وتقول نبوءة القدامى أنّه إذا ماتت الأشجار فسيموت معها الإنسان.

ثم غادر الزّعيم المستقبلي قريته إلى الغابة ليمارس طقوسا تعليمية حيث أطلق شَعره لمدة أربع سنوات ليصنع منه غطاء رأس، ويعيش وفقًا لقواعد الطبيعة ومعارف القدامى.

الأخ الشقيق للأشجار

باريس، فرنسا، 2022. في قاعة ملأى بالحضور داخل مقر اليونسكو، استقبل أكثر من 1300 شخص  الزعيم العرفي، مونديا كيبانجا، بالتصفيق.

استهلّ مونديا كلمته مازحا: "أعتقد أن البعض في هذه القاعة لا يعرف أين تقع بابوا غينيا الجديدة. أنتم اخترعتم الخرائط، لذا أقترح عليكم إلقاء نظرة عليها لتعلموا أنها تقع في شمال أستراليا".

كان ريش طائر الجنّة البرتقالي يتمايل فوق غطاء رأسه الذي قُدّ من الشّعر والرّيش. في بلده، يُلجأ إلى مونديا بصفته زعيمًا تقليديًا ليتوسّط في حلّ النّزاعات حول الأرض أو عند سرقة الماشية. لكن منذ منتصف العشرية الأولى للقرن الواحد والعشرين، بدأ يناضل من أجل البيئة ويغادر جزيرته بانتظام للمشاركة في المنتديات الدّولية. يقول مونديا: "خلال مؤتمر باريس للمناخ COP21 المنعقد في عام 2015، أدركتُ أن العالم بأسره يواجه قضية تغيّر المناخ وأن هذه المشكلة لا تهمّ سكان بابوا وحدهم. وتيقّنت أنّه من مصلحة البشرية جمعاء الاستماع إلى رسالة أسلافي القدامى.".

أدركت أنّ من مصلحة البشرية جمعاء الاستماع إلى رسالة أسلافي القدامى

في خريف عام 2022، قام مونْدِيا كيبانجا بجولة في المدارس والمهرجانات في فرنسا، والتقى بالصحفيين ورؤساء البلديات للترويج للفيلم المقبل "حرّاس الغابة" الذي يوثّق لنضال الشّعوب الأصلية من أجل أراضيها وغاباتها.

كان الملحقون الصحفيون يتهافتون في الكواليس لمتابعة الجدول الزّمني المزدحم لرجل يؤكّد، في الأثناء، أنّ الزّمن لا يهمّ كثيرا في المناطق التي قدم منها.

استغلال غير قانوني

تأوي جزيرة غينيا الجديدة ثالث أكبر غابة مطيرة في العالم، وتمثّل بابوا غينيا الجديدة موطنا لما يقرب من ٪5 من التنوع البيولوجي العالمي.

ولكن وفقًا للمنظمة غير الحكومية "جمعية الحفاظ على الحياة البرية" Wildlife Conservation Society، دُمّر ربع غابات بابوا غينيا الجديدة في الثلاثين عامًا الماضية. وقد تسارعت وتيرة إزالة الغابات، على يد الشركات الأجنبية أساسا، على نحو كبير في العقود الأخيرة في النصف الشرقي من الجزيرة. وفي عام 2015، أصبحت البلاد أوّل مُصدِّر للخشب الاستوائي في العالم. ويمكن معاينة النتائج على خريطة القمر الصناعي حيث نشاهد مناطق عارية ومسارب شاحبة تشير إلى الطرقات الغابية التي تشقّ الغطاء الغابي.

يقول مونديا متنهّدا: "هذا ما يُحزنني كثيرا. فمع سقوط هذه الأشجار، يمّحي من الوجود عمالقة من البشرية فريدون من نوعهم. لن نراهم أبدًا بعد اليوم. ولا ندري، مع تغيّر المناخ، إذا كانت هذه الأشجار سوف تنمو من جديد.".

في شريط "إخوة الأشجار" Tree Brothers الذي عُرض عام 2016 للمخرجيْن الوثائقييْن الفرنسييْن، مارك دوزيي ولوك ماريسكوت، متابعة لمونديا وهو يتنقل في جميع أنحاء البلاد لمعاينة الغابات المقدّسة التي دمّرها العمّال المحلّيون الباحثون عن عمل. كما نشاهد الآلاف من جذوع الأشجار القديمة تُحَمَّل يوميا على متن السّفن.

كيف وصلنا إلى هذا الحدّ؟ في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وُضعت آلية تسمى العقد الزراعي والتجاري الخاص Special Agriculture and Business Lease الذي يسمح للشركات باستئجار الأراضي والتقدّم بطلب ترخيص في تحطيب منطقة غابية معيّنة. ووفقًا للمنظمة غير الحكومية ACT Now تم توزيع أكثر من 50.000 كم² من أراضي الجماعات الأصلية بين عامي 2002 و2011، مقابل وعود بالزراعة والتنمية وتوفير مواطن شغل.

وفي واقع الأمر، استخدمت الشركات الأجنبية هذه الآلية لقطع الأخشاب بسرعة، قبل أن تعلن إفلاسها أو تفوّت في حصتها للغير. يقول مونديا متأسفا: "كان من المفترض أن تساعدنا هذه الشركات في بناء الطرق والمستشفيات والمدارس، لكن كل ما فعلته هو قطع الأشجار". ويضيف زعيم بابوا، أن مُلاّك الأراضي الذين اشتكوا من هذه الانتهاكات، تعرّضوا في بعض الأحيان إلى التّرهيب.

تقرير يُدين التّجاوزات

أمام تصاعد الاحتجاجات على هذه التّجاوزات، أنشأت الحكومة لجنة تحقيق للتثبّت من قانونية عقود الإيجار، وانتهت إلى إيقاف إصدار تراخيص جديدة بعد نشر نتائج الإدانة التي تظهر، على سبيل المثال، أن ما يقرب من ٪40 من صادرات الأخشاب حتى عام 2014 تمّت بموجب عقود إيجار غير قانونية. كما تزايد الضّغط الدولي حيث أعربت الأمم المتحدة، في عام 2018، عن قلقها إزاء الاستيلاء غير القانوني على أراضي الجماعات الأصلية بواسطة عقود الإيجار هذه وعلى خلفية التمييز العنصري.

ومنذ عام 2019، التزمت الحكومة الجديدة بحظر تصدير الخشب الخام وتطوير صناعة محلية تحويلية للأخشاب.

بيد أنّ مونديا مقتنع بأن إزالة الغابات ستستمرّ في غياب التّنمية. "الشّيء الوحيد الذي يمتلكه أصحاب الأراضي هو الغابة والأشجار. إذا لم تُقدّم لهم بدائل اقتصادية فسيضطرون إلى قطع الأشجار من أجل البقاء. لذا من المهمّ جدًا تطوير مشاريع تساعد النّاس على كسب المال".

مونديا مقتنع بأن القضاء على الغابات سيتواصل في غياب التّنمية

Sويرى أنّ أحد الحلول هو إنشاء غابات ثانوية، وهناك أيضًا مبادرات الحراجة الزّراعية المستدامة حول الكاكاو، والفانيليا، والبنّ، وصيد الأسماك. ويشدّد على أنّ "المبدأ هو تطوير مثل هذه المشاريع في المناطق التي تضرّرت بعدُ مع عدم المساس بالغابات البدائيّة".

الاستكشاف العكسي

التقى مارك دوزير بمونديا كيبانجا في أوائل العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، أثناء سفره إلى قرية كوبي تومبيالي النّائية. وأثمر هذا اللّقاء سلسلة من التّحقيقات الفوتوغرافية ثمّ  تصوير فيلم روائي، سنة 2017، بعنوان "الاستكشاف المعكوس" L'exploration inversée، حيث تمّت دعوة مونديا وابن عمّه بولوبي إلى فرنسا لاكتشاف طريقة الحياة الغربية.

وقد كان لهذا التبادل الثّقافي أثره في الخروج بتفسير ملائم للثّقافة الغربية مفاده الاستهلاك المفرط، ونمط الحياة المحموم، وتمدّد النسيج الحضري.

يقول مونديا: "عندما كنت طفلاً، كنت أزرع البطاطا الحلوة وأغرس الأشجار، تمامًا مثل والديَّ. كنت أذهب إلى النّهر لاصطياد الحيوانات الصّغيرة والأسماك. كنا نأكل الموز والبطاطا الحلوة المزروعة في حدائقنا الخاصّة والتي لا تتطلّب أي تبادل نقدي. مع العولمة، تغيّرت علاقتنا بالمال. أصبحنا نبيع الحطب المخصّص للتّدفئة، ونكسب الأموال من جني الفطر، وصيد الفراشات، واستغلال أرضنا وحتى ما تحت الأرض".

لكنّه يظلّ، من ناحية أخرى، مرتبطا أوثق الارتباط بأرضه وجباله وغاباته وروحانياته" قبل أن يضيف: "لا يذهبنّ في ظنّكم أنني أعارض التّنمية. اليوم، أصبح معدّل ​​العمر ونوعية الحياة أفضل بفضل المستشفيات والطبّ والمدارس. في الماضي، كانت بإمكان حالة إسهال واحدة أن تمحو قرية بأكملها".

هذا، وتبدو آثار تغيّر المناخ واضحة في أرض جماعة هوليس. فمحاصيل البطاطا الحلوة تتعرّض للغزو من قبل طفيليّات من غير المستوطنة، وتسجّل درجات الحرارة ارتفاعا متواصلا، وتندر التّساقطات، وتجفّ الينابيع والمستنقعات. يقول مونديا: "نشعر حقًا بالتّغيير منذ العشرية الماضية".

كما يخيّم على غابة هوليس تهديد آخر. ففي محافظة هلا، أُنشأ مؤخرًا مشروع ضخم للغاز الطبيعي المسال من قبل شركة متعدّدة الجنسيات. وقد أثار هذا المشروع الاستخراجي غضب مُلاّك الأراضي في هوليس إذ لم يلمسوا، بعدُ، أي فائدة من استخراج الغاز على أراضيهم وبيعه.

رغم ذلك، يبدو أنّ بابوا غينيا الجديدة تحرز تقدمًا في مكافحة قطع الأشجار غير القانوني. لكن الكفاح ضد الآثار المدمّرة للبيئة يجب أن يُخاض على نطاق كوكب الأرض بأسره.

ويُنهي مونديا قوله بأنّه "خلال مؤتمرات الأطراف COP وغيرها من الاجتماعات الأخرى، يتحدّث الناس كثيرًا، ولكن المطلوب هو التحرّك. أدعوكم جميعًا للقيام بشيء ما في حدائقكم، وفي قراكم، ومدنكم، ومناطقكم، ومجتمعاتكم، وبلدانكم، وأينما كنتم. لا يمكننا تحقيق نتيجة إلا إذا تحرّكنا جميعا".

نداء الغابة
رسالة اليونسكو
يوليو-سبتمبر 2023
UNESCO
0000385901