<
 
 
 
 
×
>
You are viewing an archived web page, collected at the request of United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) using Archive-It. This page was captured on 12:05:20 Sep 28, 2020, and is part of the UNESCO collection. The information on this web page may be out of date. See All versions of this archived page.
Loading media information hide

بناء السلام في عقول الرجال والنساء

زاوية كبرى

هذا ما كشفته الأزمة الصحية عن أوضاعنا 

cou_03_20_schulmann_website.jpg

"أبرزت الأزمة العمل غير المرئي وغير المدفوع الأجر، ذلك الذي تؤدّيه النّساء، عموما". صورة من مجموعة "في البيت"، أُخِذت في مارس 2020.

 

لئن أفصحت جائحة كورونا عن عدد من الظواهر من قبيل منح قيمة أكبر للحياة البشرية، وصعود السلطة الصحية بقوّة، وإضفاء طابع طبّي على حياتنا، وتمدّد نطاق سلطة الدولة، فهي ظواهر لم تولد مع الأزمة وإنّما كشفت عنها هذه الأخيرة .

إيكاتيرينا شولمان

أستاذة مشاركة في مدرسة العلوم الاقتصادية والاجتماعية بموسكو، وباحثة مشاركة في برنامج روسيا ومنطقة أوراسيا للمعهد الدولي للشؤون الدولية (تشاثام هاوس، لندن). 

 

لئن كان من السابق لأوانه الحديث عن تداعيات الجائحة، فبوسعنا، أن نقف منذ الآن، على الاتجاهات التي لم تكن وليدة الأزمة بقدر ما أسهمت هذه الأخيرة في إبرازها. وليس بمقدور المجتمعات، ونظم الحوكمة، والشركات، والمواطنين، مجابهة الأزمة سوى في حدود ما يمتلكونه من أدوات قبل حدوث حالة الطوارئ. لقد جرت العادة أن نقول بأن الجنرالات دائما ما يخوضون الحرب بمفاهيم الحرب السابقة. وبهذا المعنى، نحن اليوم، أفرادا وجماعات، بمثابة جنرالات حرب متأخرة.

إن ما كشفت عنه الأزمة الصحية التي ضربت العالم، أخيرا، هو أن الحكومات لم يعد بإمكانها السماح لنفسها بترك المجال لتفشّي الأزمة، وعليها، إذا ما أرادت ضمان بقائها السياسي، إثبات استعداداتها لفعل كل شيء حفاظا على الحياة البشرية. 

فيما مضى، كان يُنظر إلى الأوبئة من نوع كوفيد ـ 19، وتفشّيها، على أنّها قدَر محتوم. أمّا اليوم، وبالنظر إلى متطلباتنا الأخلاقية الحالية، لم يعد هذا الأمر ممكنا بحكم القيمة العليا التي تحظى بها الحياة البشرية. 

أولويّة الحياة البشرية 

كان المواطنون، خلال القرن العشرين، يقبلون بتقييد حرياتهم باسم مُثُلٍ عليا أو أهداف سامية من قبيل الانتصار على العدوّ، أو إنجاز أعمال ضخمة، أو الوعد بمستقبل ذهبي. أما في القرن الحادي والعشرين، فإن الوعد بأفق مستقبل مشرق لم يعد دافعا للقبول بالتّراجع عن حرياتهم، بل الذي يدفعهم إلى ذلك هي إرادة تجنّب وقوع عدد كبير من الضحايا. واليوم، فإن القيود التي نعاني منها ـ ويشعر الكثيرون بأنها علامة على تزايد عنف الدولة ـ ليست، في الواقع، سوى نتيجة طبيعية لحاجتنا إلى الأمن.

لقد أصبحت الحياة ثمينة إلى حدّ لم تعد معه أيّ حكومة في العالم قادرة على تحمّل خسائر في الأرواح بالإمكان تجنبها، في نظر المجتمع. وتجدر الملاحظة، هنا، إلى أن الدول، سواء كانت ديمقراطية أم استبدادية، قد اتّخذت تدابير مماثلة تقريبا من حيث القيود على الحريات. في حين أنّها اعتمدت استراتيجيات مختلفة تماما في مجال دعم الاقتصاد الذي تعرّض إلى صدمة الوباء والحجر الصحي. ونظرا إلى أنّ الاقتصاد الحديث يقوم على الخدمات وليس على استغلال الموارد، فيمكن أن نتصوّر أن الحفاظ على البشر ـ سواء كانوا منتجين للخدمات أو مستهلكين- أمر منطقي حتى وإن بدا غير مربح من وجهة نظر اقتصادية بحتة قصيرة المدى.

وقد كشفت الثقافة الإنسية، خلال هذه الأزمة، أنها كانت على استعداد للتّخلي عن الحريّة باسم الصّحة العامة. وكان لارتفاع معدّل العمر، وتقدم الطبّ، والحرص على حياة صحية، ودور الشّبكات الاجتماعية في تثمين نرجسية الفرد، أثره في تعزيز هذه الظاهرة.

إضفاء الطابع الطبّي على الحياة اليومية

إن مقتضيات "الأمن"، بمعنى "البقاء" و"الحفاظ على الصّحة"، قد تجلّت في إضفاء الطابع الطبّي على حياتنا اليومية ولم تقتصر على نشر التّعليمات والممارسات الطبية في حياتنا. فمن المحتمل، مستقبلا، أن يشمل هذا التطبيب للحياة المسارات السياسية ومسائل الحوكمة إذا ما رأى المجتمع الدولي، على سبيل المثال، أن مكافحة الأوبئة تقتضي تنسيقا من نفس المستوى الذي تطلّبه التصدّي للإرهاب.

إنّ المعارف الطبية، وما واكبها من تمثّلات علمية زائفة ازدهرت عبر الإنترنت بصفة خاصة، قد غزت لغتنا اليومية وأصبحت متداولة في يومياتنا. ولن يفجأ أحد، بعد اليوم، بوجود أجهزة قياس حرارة الأشخاص في الأماكن العامة، بنفس الطريقة التي تعوّدنا عليها في الخضوع إلى أجهزة الكشف عن المعادن. وسوف تصبح استشارتنا الطّوعية للطبيب، كفعل إرادي حرّ، مجرّد ذكرى بعيدة، إذ قد يُجبر، غدا، الأشخاص المصابون بالحمّى على الإقامة الجبرية، مثلما عشناه مؤخّرا.

ويتجسّد إضفاء الطابع الطبي على الحياة اليومية، أيضا، في الدور المتزايد للخدمات الصحية، بما في ذلك في المجال السياسي. ويُلاحَظ هذا في مستوى الدول كما على الصعيد العالمي حيث أنّ الأهمية السياسية التي تحظى بها منظمة الصحة العالمية لا تقاس، فقط، بعدد البلدان التي تطبّق توصيات المنظمة المتعلقة بمكافحة الأوبئة، بل تقاس أيضاً بحدّة المقاومة السياسية التي تثيرها هذه التوصيات.

وسوف يقتضي استئناف التجارة الدولية، والنقل الجوي، والرحلات، في المستقبل المنظور، إعداد منظومة قواعد وقيود موحدة. كما ستتحوّل الهيئة ما فوق الوطنية المكلّفة بصياغة هذه التوصيات ومراقبة تطبيقها، إن وُجدت، إلى فاعل هامّ في العلاقات الدولية.

تجربة مشتركة

في الوقت الذي انغلق فيه العالم، فجأة، على نفسه، لم يسبق له، في الآن ذاته، أن عرف هذا المستوى من الاتصال الشبكي فيما بينه. فهذه المأساة أفضت إلى توحيد البشرية حول نفس القضية. ومثل هذا الاشتراك في المصير لم يحدث منذ "سباق التسلح النووي"، مع فارق أن المواطنين اليوم أكثر انخراطا في الأحداث.

ففي مثل هذه اللحظات المحورية، تُبنى التحالفات التي سترسم ملامح عالم الغد، على غرار ما حدث غداة الحربين العالميتين اللتين هزّتا القرن العشرين. وسيكون من السابق لأوانه الحديث عمن سيكون المستفيد من ذلك؟ ومن هم الأعضاء الجدد الذين سيتشكّل منهم مجلس الأمن المكلّف بمكافحة الفيروسات؟.

لكن المؤكّد أن البلدان الصناعية سيتعيّن عليها تحمّل مسؤولية متزايدة لمعالجة أوجه القصور في النظم الصحية للبلدان الأكثر فقراً وإلا فإنّ الجهود المبذولة في مكافحة الجائحة ستذهب سدى. وحتّى الآثار المفيدة للتدابير الجذرية مثل الحجر الصحّي ستصبح لاغية في صورة ظهور بؤرة جديدة في بلد غير قادر على احتواء الوباء. 

لقد عشنا "تجربة مشتركة"، بمعنى أن عدداً كبيراً للغاية من الناس عاشوا هذه التجربة في نفس الوقت وتقاسموها كما كان الحال قبل نحو عشرين عاماً عندما انهار البرجان التوأمان في نيويورك.

فاعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية مثّلت نقطة تحوّل حيث حظيت الخدمات الأمنية، بعد هذا التاريخ، بسلطات واسعة، وتعزّزت عمليات مراقبة المواطنين، وتمّ تعميم ممارسات من قبيل تثبيت كاميرات المراقبة في الأماكن العامة، واستخدام برامج التعرّف على الوجه، واللّجوء إلى أنظمة التنصّت على المحادثات. كما تغيّرت حياتنا اليومية، ولاسيما رحلاتنا الجوية وما واكبها من إجراءات المراقبة التي أصبحت، في نظرنا اليوم، عادية. 

المزيد من المراقبة وتضييق أكبر على الحريّات

أثناء هذه الأزمة، استغلت بعض الدول جائحة كورونا لبسط سلطاتها، في كنف القانون، في مجال المراقبة واستخدام البيانات الخاصة بالمواطنين. هكذا نرى كيف أن ظروفاً استثنائية من شأنها أن تبرّر ممارسات المراقبة والرّصد وتضفي عليها الشرعية في نظر المجتمعات. وينطبق ذلك أيضاً على النظم الديمقراطية. وقد تزيد الجائحة من تآكل حظوظ حماية الحياة الشخصية، رغم أنّه في النظم الديمقراطية ثمة، على الأقل، قوى مضادة للحدّ من هذا التطفّل على بياناتنا الشخصية في حين أنّه لا يوجد ما يوازي ذلك في الأنظمة الاستبدادية.

مثل هذا التهديد يصبح أكثر واقعية في أوقات الأوبئة التي تساعد على تعزيز قوّة الدولة بداية من الأزمة الاقتصادية، الناجمة عن الأزمة الصحية، والتي تجعل من الشركات والمؤسسات العامة المشغّلة الوحيدة القادرة، تقريباً، على الإيفاء بالتزاماتها. كما أنّ الأزمة تعزّز دولة الرعاية الاجتماعية التي توفّر شبكة أمان قد تحوّل، مستقبلا، العاملين إلى مستفيدين من دخل أساسي مضمون. 

أعمال غير مرئية

بينما كان العالم خاضعاً لإجراءات الحجر الصحّي، أدرك ملايين الأشخاص أن العمل عن بُعد، بجميع أشكاله، أكثر فائدة للمشغّل من الموظّف نفسه. فبفضل هذا التنظيم الجديد للعمل، تُحْمَل تكاليف التّدفئة، والصّيانة، والإيجار، وحتى التّجهيزات اللازمة للعمل على الموظّف عوضا عن المشغّل.

إضافة إلى أنّ الحدود بين وقت العمل والوقت الشّخصي، وبين مجال العمل ومجال الحياة، تتجه نحو التلاشي. ومثل هذه الظاهرة تُضرّ بالحقوق التي اكتسبتها الحركات الاجتماعية والنقابية بعد نضالات مضنية على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين. فهي بقدر ما تمرّ بنا، بالتأكيد، إلى مستوى تقني جديد، تعود بنا إلى أوضاع سابقة، عندما كانت العلاقات بين الأجراء وأرباب العمل غير مقنّنة بالكامل، والعمل غالباً ما يُنجز في المنازل ويُكافَأ بالقطعة.

أثناء هذه الأزمة غير المسبوقة، وجد الأجراء أنفسهم ملزمين بأداء خدمات يقوم بها عادةً آخرون، مثل رعاية الأطفال، والعناية بالمسنين، وأعمال الطبْخ، وغيرها من الواجبات المنزلية. وقد أبرزت الأزمة هذه الخدمات غير المرئية وغير المدفوعة الأجر، والتي تُسمَّى أحياناً "الناتج المحلي الإجمالي الثاني"، وهي أعمال تقوم بأدائها، عموما، النساء. وقد تكون الأزمة فرصة لمناقشة ضرورة دفع أجور مقابل هذه الأشكال من العمل غير المرئي.

إنّ نظام العلاقات الدولية دائماً ما أعيد تنظيمه في أعقاب الكوارث الكبرى. فالحرب العالمية الأولى أفضت إلى قيام عُصبة الأمم، والحرب العالمية الثانية أدّت إلى نشأة منظمة الأمم المتحدة. هكذا اتحدت البشرية، في كلّ مرّة، على أساس تجربة جماعية، ووضعت لنفسها أدوات جديدة، وآليات جديدة للحوكمة. وقد تنشأ هيئات جديدة عن الأزمة الحالية.

وخلافاً لمآسي سابقة في التاريخ وضعت البشر وجها لوجه وفرّقت بينهم، فإنّ هذه الجائحة تضعنا جنبا إلى جنب في مواجهة الفيروس. ما من أحد أمامنا نوجّه إليه كراهيتنا وليس من خيار آخر لدينا في مواجهة هذه الأزمة سوى التّضامن مع بعضنا البعض.

 

قراءات تكميلية

ماذا عن المخاطر الأخلاقية للذكاء الاصطناعي، رسالة اليونسكو، يوليو- سبتمبر 2018

الإنسانوية أو السّبل إلى إخماد التعطّش إلى الإنسانية، رسالة اليونسكو، يوليو- سبتمبر 2017

ثورة لم تعلن عن اسمها، رسالة اليونسكو، جويلية- سبتمبر 2011

النّزعة الإنسانية، فكر متجدّد دائما، رسالة اليونسكو، أكتوبر- ديسمبر 2018

أولويّة المسألة الاجتماعية، رسالة اليونسكو، نوفمبر 1959

 

اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني 100%.

تابع  رسالة اليونسكو على تويتر، فايسبوك، أنستغرام